مدرسة عينطورة كانت مركزاً لـ'تتريك' الأيتام الأرمن |
جريدة النهار - لبنان مضى على الابادة الارمنية تسعون عاما، ولا يزال البحث مستمرا عن الناجين والمشردين بصورة حثيثة ودقيقة. وهذا ما حصل مع الباحث ميساك كيليشيان الذي لاحظ خلال احدى قراءاته صورة مؤثرة، وبعد البحث والتدقيق تبين له ان ثمة قصة في منطقة عينطورة في لبنان تتحدث عن اعمال تتريك الايتام الارمن نشرت للمرة الاولى في جريدة "ازتاك" اليومية. كانت الصورة هي البداية فكرّت السبحة وبدأت البحث. والنهاية كانت مؤلمة وموجعة لانها سلطت الاضواء على حقيقة مريرة هي بمثابة شهادة جديدة للشعب الارمني. فبعض الايتام الناجين من الابادة وصلوا الى منطقة عينطورة تحت العناية التركية وخضعوا لعملية تتريك واضحة وصريحة. بعد مدينة حلب وصل الأرمن الى لبنان ارض العطاء، آملين ان ينتهي كابوسهم، لكنهم لم يدركوا ان القبضة التركية ستلحق بهم. لم يستغرب الارمن يوما ما قد خططته ونفذته السلطات العثمانية بحق الشعب الارمني، لكنهم لحقوا بهذا الشعب الى لبنان ليضعوا موضع التنفيذ سياسة تتريك الاطفال اليتامى الذين فقدوا كل ما لديهم ووقعوا فريسة الاجرام التركي. كان مكتوبا ايضا ان جمال باشا اسس في هذه المدرسة ميتما للاطفال الارمن بادارة خالدة هانم. هذه الصورة بالذات كانت مؤثرة جدا كما انها كانت تشير الى بوادر مأسوية جديدة". وفي هذا المجال اكد المسؤول عن الارشيف ان العنصر الاهم في الصورة يكمن في وجود جمال باشا وخالدة هانم الى جانب الايتام الارمن. فخالدة هانم كانت تعتبر من رواد الحركة النسائية آنذاك وكانت قد قابلت غاندي وتوجهت الى الولايات المتحدة الاميركية والتقت اعضاء من الحركة النسائية هناك. احبت اتاتورك، لكن الاخير لم يعرها اي اهتمام. اما بالنسبة الى الارمن فخالدة هانم كانت تعتبر من الاشخاص الذين أوكلت اليهم مهمة الابادة الارمنية عن طريق التتريك الكامل، وقد قامت بهذه العملية على أكمل وجه. وكانت المدرسة تعتبر اولى المؤسسات الثانوية في منطقة الشرق الاوسط التي احتلها الاتراك وحولوها ميتما. في اواخر 1915 اعلم قائمقام جونية مسؤولي مدرسة عينطورة بوجوب اقفال المؤسسة فانتقل بعض الآباء العازاريين الى دير آخر، والبعض الآخر اخذ الى الاناضول واورفا. وبعد اخلاء المدرسة حوّل المكان ميتما ضم اطفالا من الارمن والاتراك والاكراد. وفي عام 1915 كان في المدرسة ثمانمئة يتيم وثلاثين جنديا يحرسون المكان. اما الادارة فكانت بأيدي نبيه بك. وفي تلك الايام بدأت عملية تتريك الاطفال الارمن: تقام اولا عملية الختان. ثم تستبدل اسماؤهم بأخرى تركية وعربية، فيصبح مثلا اسم هاروتيون ناجاريان حميد نظيم، وبوغوص مردينيان بكيم محمد. كما ان الامراض وسوء التغذية فتكت بعدد كبير من الاطفال. ولدى زيارة المدرسة كان المسؤولون الاتراك يوبخون نبيه بك بشدة على سوء معاملته للايتام. عام 1916 ابدى جمال باشا رغبته في زيارة المدرسة. عند علمه بالزيارة قام نبيه بك بنزع كل من تمثالي مار يوسف واحد الآباء اليسوعيين عن مدخل المدرسة. رافقت جمال باشا في الزيارة خالدة هانم التي عينت نائبة لمدير المدرسة، وعاونها في المهمة خمس راهبات لبنانيات في مجال التغذية والنظافة. وكلفت خالدة هانم ايضا ادارة مدرسة الناصرة في بيروت التي اغلقت ابوابها عام 1917. ووصل الى عينطورة مع زيارة جمال باشا نحو اربعمئة يتيم تراوح اعمارهم بين الثالثة والخامسة عشرة. ورافق هؤلاء الايتام نحو خمسة عشر صبية من العائلات التركية النبيلة لمساندة اربعين شخصا يهتمون بعملية التتريك في عينطورة. كانت خالدة هانم تتمتع بصلاحيات واسعة جدا، وكان هدفها الاول والاخير الاسرع في عملية التتريك لكي تصبح المدرسة صرحا مثاليا بالمفهوم التركي. كان التعليم في المدرسة باللغة التركية، اما الاطفال الاكبر سنا فكانوا يتدربون على مهن مختلفة كالنجارة وصناعة الاحذية، وكانت التربية الدينية صارمة بحيث كانت تقام الصلوات خمس مرات في اليوم الواحد وكان الاطفال ينشدون بانتظام "عاش السلطان". وعند ابتعاد الاتراك عن المدرسة عاد الفرنسيون والانكليز والآباء الى عينطورة. وبعد الاطلاع على الاحوال المأسوية السائدة في المدرسة سارع احد المسؤولين عن المدرسة الى طلب المساعدة من الجامعة الاميركية في بيروت وتحديدا من رئيسها بايارد دودج الذي بادر فورا الى ارسال المواد الغذائية بواسطة الصليب الاحمر الاميركي. وفي الاول من تشرين الأول 1919 اخلى الاتراك المتبقون المدرسة نهائيا. وفي السابع من تشرين الاول عاد الاب سرلوط الى عينطورة وتأكد بنفسه من مأسوية الحالة السائدة. لكن الاب سرلوط كان يدرك تماما ان الامكانات المتوافرة لديه غير كافية للاستمرار بالحياة الطبيعية داخل المدرسة، فبادر الى طلب المساعدة من دودج بغية تدخل الصليب الاحمر الاميركي مجددا لمساعدة هؤلاء الايتام. وفي تلك المرحلة عين السيد كروفرد مديرا لمدرسة عينطورة فلجأ الى استخدام اساتذة ارمن ولبنانيين للتدريس. بعد كروفرد تولت مؤسسة "نير ايست ريليف" ادارة المدرسة، وفي خريف 1919 اقفلت المدرسة ابوابها ورحل الايتام الذكور الى حلب، اما الفتيات فأرسلن الى ميتم غزير. ويضيف ميساك كيليشيان: "عند التجوال داخل حرم المدرسة لفتت نظري زاوية كنت قد رأيتها يوما وشاهدتها في صورة ما. عدت الى البيت وبدأت التدقيق بين ملفاتي فوقعت يدي على صورة طفل ارمني يتيم يقف في تلك الزاوية التي شاهدتها في المدرسة. اما الصورة فكنت قد اخذتها من ارشيف بطريركية الارمن الارثوذكس لبيت كيليكيا في انطلياس. والصورة تعود الى الصور والملفات التي تركتها مسؤولة "نير ايست ريليف" ماري جاكسون بعد مغادرتها لبنان. ان هذه الصورة تمثل الدليل القاطع على وجود هؤلاء الاطفال الارمن في مدرسة عينطورة التي كانت شاهدا على ابادة من نوع آخر، عنيت التتريك، اذا كان يجب محو اي اثر للأرمن من اي نوع كان. ان قصة مدرسة عينطورة ليست سوى عينة واحدة بين عينات كثيرة تصور عذابات الارمن ومآسيهم، فوصية الاجداد غالية وعلينا احترامها من اجل وطن ترخص التضحية من اجله ايا تكن الاثمان". |