مقالات

طبول ' نوبل ' الآداب تقرع للروائي التركي اورهان باموق

جمانة حداد
النهار 13 ت1 2006

مفاجأة؟ ليس حقاً. ذلك ان اسم الروائي التركي أورهان باموق، الذي ظفر أمس بـ"نوبل" الآداب عن استحقاق وجدارة، كان مطروحاً بقوة في كواليس الجائزة العام الفائت، مما يُظهر أن الشائعات "النوبلية" التي تحوم سنوياً حول مجموعة من الأسماء الروائية والشعرية تتمتع بحدّ أدنى من الصدقية.

مفاجأة؟ ليس حقاً. ولكن يا لـ"قدرية" أن ينال هذه الجائزة العالمية العظمى، كاتبٌ تركي اشتهر بأنه يدعو حكومة بلاده الى الاعتراف بالمجزرة الأرمنية، وسط لحظتين سياسيتين شديدتَي الارتباط بمواقفه، إحداهما محلية، وثانيتهما أوروبية: فمن جهة، اذيع إسم الفائز بينما كان الأرمن اللبنانيون يتظاهرون هنا على مقربة، في ساحة الشهداء تحديدا، ضد مشاركة تركيا في قوات "اليونيفيل". ومن جهة ثانية، هبط الاعلان بينما تناقش فرنسا مشروع قانون مثيراً للجدل، يقضي بفرض عقوبة قاسية على من ينكر المجزرة التي ارتكبتها تركيا في حق الشعب الأرمني عام 1915.

لسنا ساذجين لكي نتجاهل أن لمواقف باموق السياسية "يداً" فاعلة، كي لا نقول جوهرية، في دفع عجلة "نوبل" للآداب في اتجاهه، فمعروف عن لجنة التحكيم في هذه الجائزة أنها تأخذ دائما في الاعتبار معايير مماثلة. بل لا مبالغة في اعتبار فوز باموق "رسالة" موجّهة الى تركيا، التي تدافع بشراسة اليوم عن مطامحها الاوروبية وتحتج على محاولات اقصائها عن الاتحاد الاوروبي، من دون أن تبذل في المقابل جهودا ملموسة لتستوفي متطلبات انضمامها الى هذا الاتحاد. لماذا هي "رسالة"؟ لأن باموق غالبا ما تصادم مع السلطات التركية، وهو المشهود له بجرأته ومواقفه الانسانية ودفاعه عن الاقليات. على سبيل المثال، رفض الكاتب مرّةً تكريم الحكومة له عبر منحه لقب "فنان الدولة" الذي يعتبر أهم لقب ثقافي في البلاد، مستنكراً انتهاكها بعض حقوق الانسان وسجنها الكتّاب وتقييدها حرية التعبير. وعندما قام جورج بوش، اثناء احدى زياراته لتركيا، بالحديث عنه واصفا إياه بأنه "كاتب كبير يساهم في ردم الهوة بين الشرق والغرب، بناء على ما تسعى اليه قيمنا الأميركية"، اعترض باموق علنا على استغلال ادبه بهذه الصورة لتبرير الحرب الاميركية على العراق، ورفض أن يستشهد به بوش كأنه "عضو في فريقه". وفي شباط الفائت، صرّح لصحيفة سويسرية: "قُتل مليون أرمني فى تركيا، ولا أحد يجرؤ على الاعتراف بذلك سواي". فاتهمه المدعي العام التركي بتحقير الهوية التركية، وكان الكاتب ليمضي ثلاث سنوات في السجن، لو لم تتدارك الحكومة فداحة تصرفاتها وتُسقط التهمة عنه لاحقاً.

لأجل ذلك، تواجه الحكومة التركية اليوم مأزقا حرجا: هل تحتفي بأحد أبرز المحدثين في الرواية التركية وأشدّ كتّابها شعبية وأكثرهم انتشاراً، هو الذي يُقبل الجمهور التركي على رواياته وتعليقاته بلهفة، كأنه يجسّ بها نبضه، أم أنها ستواجه خبر نيله الجائزة ببرود، بعدما كانت تنوي محاكمته بسبب خطاب سياسي شجاع يصب تحديدا في انسانوية ذات قيمة معيارية اوروبية، مطلقة وجوهرية، ويكرّسه بطلا مضطهداً، و... يلصق بهذه الحكومة صورة النظام المتخلّف والظالم؟

لسنا ساذجين إذاً، ولا يخفى علينا أن أحد أبرز أسباب فوز باموق سياسي محض، لكن هذا لا يعني البتة أن أدبه لا يستحق جائزة بأهمية "نوبل". فأورهان باموق روائي "خطير". بعضهم يصف كتابته بالفلسفية، وآخرون بالتاريخية، وثمة من يربطها بالفانتازيا البورخيسية الحديثة. لكنها في الواقع خليط من ذلك كله، وأكثر. خطورته اولاً في لغته الهذيانية، الضبابية عمداً، المهجّنة بين حدّي العقلانية والهلوسة. لغةٌ ذات بنى نحوية تركيبية غريبة، هي سلسلة من المتاهات والتعرّجات والدورات والمنعطفات والمنحدرات لا تفضي الى مكان، أو تفضي بالأحرى الى اللامكان، حتى اننا نتساءل: هل ثمة غاية سيدركها الكاتب بعد كل هذا الترحال، وما عساها تكون؟ باموق خطير كذلك لأنه يدفعنا كقرّاء الى الحافة. يعكس المعادلة فيمتحن قدراتنا بدلاً من أن يكون هو الممتَحَن. يدفشنا الى التكهن والابتكار. "يورّطنا" في صناعة القصّة، فنشعر احياناً كما لو أن روايته تبحث عن معانيها بمعزل عنه، وكما لو انها تنكتب للتو أمام أعيننا. وبنا. وهو خطير بخاصة في الاسلوب المغناطيسي المربك، المتحدّي، الذي يحضّ فيه الانسان على النظر الى داخله، على البحث عن هويته وحقيقته، وعلى طرح "الاسئلة الكبرى" حول ثنائيات الشرق والغرب، التشابه والاختلاف، الجماعة والفرد، الواقع والخيال، المعنى والعبث، اليقين والالتباس، وسواها من التناقضات والتشابكات التي تصوغ الكيان والشخصية والخصوصية. لهذه الأسباب وسواها، من البديهي القول ان هذا الكاتب، المولود في اسطنبول عام 1952 هو من أبرز محدثي الرواية التركية وأكثرهم جرأة وأوسعهم انتشاراً واستحقاقاً لانتشاره، إذ ترجمت أعماله حتى اليوم الى ما يزيد على ثلاثين لغة، فكم بالأحرى الآن، بعدما قرعت أجراس "نوبل" اسمه، ووضعته في الواجهة الأدبية؟ في أي حال، ليست هذه المرة الأولى ينال جائزة ادبية مرموقة، فهو سبق أن حاز جائزة "امباك" الدولية المرموقة لسنة 2003 عن روايته "اسمي أحمر"، كما ظفر عام 2005 بـ"جائزة السلام" التي يمنحها اتحاد الناشرين الألمان سنويا في ختام معرض فرانكفورت للكتاب.

"الكتابة عزاؤنا الأوحد"، يقول باموق، الذي كانت بداياته في الواقعية الكلاسيكية، لكن تجربته الروائية تطورت في ايقاع سريع ومكثف منذ كتابه الثاني "منزل الصمت" (1983)، لتدخل في لعبة الترميز والمرايا، وهي لعبة مألوفة لدى كتّاب الفانتازيا الكبار من أمثال ايتالو كالفينو ووليم غاس وخورخي لويس بورخيس، فضلاً عن الحضور الواضح لتأثيرات فوكنر في كتابته. هكذا نشهد في جملة، طبقات متراصة ومتشابكة من المعاني والأسرار، كما لو ان تحت كل حقيقة تكمن حقيقة اخرى على نحو متراكب يذكّر بالدمى الروسية. كتابة صعبة، مجازية، معقّدة، "مذنبة" بامتياز في ذهنيتها، إذ لا شيء من العفوية فيها، بل يمكن القول انها جولة مصارعة مع الكلمات، وإن بدت للوهلة الأولى "بسيطة" وتلقائية. انها لغة تخاطب القارئ وتمنحه امتياز "وجهة النظر" وتحمّله وزر هذا التدخل على حد سواء. ولطالما ردّد باموق في حواراته انه يرغب في ابتكار كتابة تعكس نسيج الحياة في مدينة اسطنبول. ويمكن القول انه نجح في ذلك على نحو بارع، لأن كتابته، مثل مدينته، تتأرجح في توازن دقيق بين الشكل والفوضى، بين التخطيط وانعدام التناسق، بين سحر الماضي وغزو الاسمنت، وايضاً، وخصوصاً، بين وجهيها الشرقي والغربي.

تثير أعمال باموق، الذي نشأ في كنف عائلة بورجوازية، وتابع بدايةً دراسات في الهندسة المعمارية قبل ان ينتقل الى الصحافة، ردود فعل متطرفة، من الإدانة القصوى الى التكريس المطلق. ففي حين يتهمه المثقفون الاسلاميون مثلاً باستغلال الموضوعات الدينية والتاريخية، التي غالباً ما تشكّل قماشة رواياته، باسم الحداثة الغربية، لا ينفكّ العلمانيون يلومونه على انتقاده الصريح لايديولوجيا الدولة. رغم كون السياسة في الأدب "قنبلة موقوتة"، على ما يصفها ستاندال، إلا ان توق باموق الى محاربة الديكتاتورية والفساد والارهاب بسيف الأدب توق صادق، وهو الذي يؤكد أن "مفهومي الشرق والغرب غير موجودين حقاً، بل هما وجهان للحضارة نفسها، ولا بدّ من أن يجيء اليوم الذي سينصهران فيه ويختفي هذا التصنيف التصادمي والعدواني". لكن رغم ان للسياسة حضوراً ناتئا في قلم باموق، برز أكثر ما برز في روايته الأخيرة "ثلج" (صدرت في ترجمة عربية عن "دار الجمل")، فإن الأدب هو بطله الأكبر. ومما لا شك فيه ان للتأثيرات الغربية في الحياة التركية التقليدية، و"الهوس" التركي بالوجه الاوروبي، وتنازع البلاد بين هويتين وانتماءين، حضوراً بارزاً وأساسياً في رواياته، وهو يستخدم التناقضات والازدواجيات والتضادات من كل نوع لخدمة هذا الحضور. اما الهوية فهي الذاكرة في رأيه، او الماضي الذي يروم الانتصار على النسيان وبناء المستقبل، فيقول في هذا الصدد: "اذا حاولتم قمع الذاكرة، لا مفرّ من أن يعود شيء منها الى السطح. أنا هو ما يعود". بذلك يتضح لنا ان باموق يبغي في الدرجة الاولى، من خلال مزجه هذا بين الذاكرة والمستقبل، بين الأسرار الصوفية والحكايات الاسلامية التقليدية والأدب الشعبي واللغة التجريبية الما بعد حداثوية، لا أن يروي قصة الصدام بين الشرق والغرب، بل ان يصوّر على الارجح علاقة الشغف التي تربطهما، شغف ملتهب الى حد يدفعنا الى التساؤل هل يمكن الثقافات ان تتبادل الهوى مثل الأفراد. وجدير بالذكر أن روايته "ثلج" أثارت لدى صدورها سيلا من الانتقادات العنيفة، إذ يحضر فيها عدد كبير من التحديات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط اليوم: مسألة الفصل بين الدين والدولة، الفقر، التحديث، تأثيرات اوروبا وأميركا، الصدام بين الإسلام الراديكالي والايديولوجيات الغربية،...الخ. الكاتب الجسور لم يتأثر طبعا بالحملات التي شُنّت عليه، وهو الذي لا يتردد في قول اقتناعاته كلما دعت الحاجة، ولا يساوم على مواقفه المعارِضة.

يقول اورهان باموق على لسان احدى شخصياته في مطلع روايته "الحياة الجديدة" (1994): "ذات يوم قرأت كتاباً، ومذاك تغيّرت حياتي كلها". هذا الدافع تحديداً، او بالأحرى هذه "المعجزة" التي يحققها أدبه فينا، هي ما يحضّنا اليوم، أكثر من طبول "نوبل" الآداب، وأبعد من معمعة بورصة المواقف السياسية، على الدعوة الى قراءته واكتشافه.

جديد

تحميل الكتاب - تحميل الخرائط
أحدث المواضيع
بــيـــان عموم الأرمن في الذكرى المئوية للإبادة الجماعية الأرمنية
إصدارات - كتب

ذاكرة أرمنية – صور من مخيم لاجئي حلب 1922-1936


نحو قرار عادل ومنصف حول نزاع كاراباخ الجبلية

النشرة