مسار الارمن في الحياة السياسية اللبنانية |
د. فاديا كيوان * 24 نيسان هو اليوم الوطني الأرمني، الذي استعادت فيه الطائفة الأرمنية اللبنانية ذكريات مرة متصلة بالإبادة التي لحقت بالشعب الأرمني في العام 1915. هكذا تقاطعت الذكرى الخامسة والثمانون وفيما يحاول اللبنانيون قراءة الحرب اللبنانية الأخيرة بحثا وراء العبر منها ومن ويلاتها، لا بد من أن تتجه أنظارهم، كذلك عاطفتهم، نحو الشعب الأرمني، وخصوصا الطائفة الأرمنية اللبنانية التي تشكلت في لبنان بعد تشريد الأرمن نتيجة مجارز عام 1915. واللافت في مسار الشعب الأرمني اللبناني أنه انخرط في الحياة لا للحرب لم يشارك الأرمن في الحرب، فاغتاظ منهم بعض اللبنانيين الآخرين، و"لم تسلم دائما الجرة". أما اليوم، وبعدما توقفت الحرب في شبه تسوية وبدأت مرحلة الإعمار، فرأى اللبنانيون عظمة الكارثة التي أحلوها بوطنهم، وتراكمت الديون لعشرات السنين في مرحلة إعادة إعمار البنى التحتية، وما زالت البلاد تتعثر في إعادة اللحمة الوطنية وتعزيز سلطة الدولة وسيادة القانون وتلبية الحاجات الأساسية للشعب اللبناني، فإذا بالأنظار تعود فتتجه نحو الأرمن اللبنانيين، وهي أكثر تفهما لموقفهم المعادي للحرب في العام 1975. اليوم في إمكان الفئات المختلفة من اللبنانيين أن تتعاطف أكثر مع الأرمن في ذكرى المجازر، لأن الجميع اليوم يستعيدون ألما مشابها وإن في ظروف مختلفة. وما من بيت، وما من عائلة إلا وأصيبت بأفرادها أو بممتلكاتها ورزقها، أو بكل هذه الأمور معا. اليوم في إمكان مختلف الفئات من اللبنانيين أن تتفهم أكثر موقف الأرمن المتحفظ عن الحرب. فهم قد ذاقوا طعم القتل والتعذيب والتهجير، وبلغوا مستوى من النضج فرض عليهم البحث عن وسائل غير الشعب الأرمني اللبناني إعتنق قبل سواه عقيدة النظام اللبناني الآيلة إلى التوافق بين الجماعات والى مشاركة مختلف الفئات في الحياة العامة، بحيث لا يكون هناك مجال لتهميش فئة أو لأستئثار أخرى وهيمنتها. كذلك أبدى الأرمن اللبنانيون دائما تشبثهم بالطرق السلمية لحل النزاعات الناشئة. وتمسكهم بالشرعية اللبنانية دائما موقف مبدئي يعبر عن تثمينهم للكيان اللبناني الذي انتموا إليه وشاركوا في مؤسساته، واعتبروا الشرعية الدستورية في لبنان خطا أحمر لا يجوز أن يطاله أي نزاع ولا أي هجوم. قد يختلف اللبنانيون على آليات تشغيل الديموقراطية وعلى "حصصهم المختلفة" في المشاركة، لكن ما لا يجوز أن يطاله أي سجال هو ثوابت هذا النظام الديموقراطي القائم على الحريات والذي رافق لبنان منذ نشأته. ومن غير الجائز للمرء أن يقطع الغصن الذي يقف عليه... لكن ما فعله لبنانيون آخرون تقاذفوا التهم في مسؤولية إشعال الحرب، وقد شاركوا فيها من مواقف مختلفة طمعا بالربح على حساب خراب الوطن. اليوم في إمكان اللبنانيين أن يفهموا أكثر موقف الأرمن. فإذا ببعض من شارك في الحرب نادم على ذلك ومن لم يشارك في أعمال حربية مرتاح الضمير إلى أنه لم يساهم في ويلاتها وإن وقع ضحيتها كسواه. لكن هل وصل عدد من اللبنانيين إلى ترسيخ الإقتناع بوجوب العمل الدؤوب على استئصال كل فكر كلياني أو جامح أو طامع أو مستهتر بقدسية السلم الأهلي في لبنان؟... الحياة الحزبية تكافل وتضامن ويخطئ من يعتقد من اللبنانيين أن الوسط كان جبل لبنان والأطراف كان المحافظات الأربع، أو أن الوسط كان مسيحيا والأطراف مسلمة. فهذا الإدراك للوسط الجغرافي الطائفي ساذج وبسيط وغير دقيق. فالأرمن، لمن لا يتذكر – يدعون أنهم أول شعب اعتنق المسيحية في العام 301... والمناطق الأرمنية تقع في صلب الوسط الجغرافي، لكن حالها حال أطرافه من ضعف البنى التحتية – بل غيابها في بعض الأحيان – وانعدام الخدمات التربوية والإجتماعية – إلا ما ندر منها بمبادرات إستثنائية. وحال برج حمود مثلا، من الناحية العمرانية، شبيهة بالضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تفتقد هذه المناطق وتلك، وهي مكتظة بالمواطنين، لأبسط البنى التحتية – من مجارير ومياه شفة وشروط سلامة صحية وطرقات وأبنية مدرسية لائقة... وحال الإهمال هذه لم تدفع الأرمن إلى الكفر بلبنان والى اللجوء إلى حالات عدائية تجاه الدولة فيه والنظام، بل تشبثوا بثوابته ودعوا الجميع إلى إعتماد الوسائل الديموقراطية لتسوية كل الخلافات ودعوا إلى الإلتفاف حول الدولة بدلا من الإلتفاف عليها. إضافة إلى الميزات الخاصة بالأرمن اللبنانيين، فهم قريبون جدا من اللبنانيين الآخرين في القيم الإجتماعية والعائلية السائدة، وهم اشتهروا تاريخيا بروح المبادرة وروح التجارة – ومن لا يتذكر جاء موقف الأرمن اللبنانيين من الحرب في لبنان باردا ممانعا لها، باحثا عن تسوية وإلا عن الحوار. فكانوا جزءا من قلة في هذا البلد لم تعبث بمقوماته بحثا عن زيادة نفوذها أو للمحافظة على نفوذها، فساهموا مع هذه القلة في بقاء المقاومة المدنية لمنطق الحرب، وفي تثقيل المقومات الأهلية لوجود الكيان اللبناني في مواجهة العواصف التي هبت عليه منذ إندلاع الحوادث عام 1975. وفي ذكرى المجازر التي أصابتهم منذ خمسة وثمانين عاما، في محاذاة ذكريات الحرب اللبنانية الأليمة، يزيد تعاطفنا معهم وتقديرنا لعظمة التجربة التي مروا بها فاعتبروا. أما بعد، فأسئلة نطرحها على أنفسنا في مجال تعاملنا مع بعضنا بعضا في لبنان وفي تعامل النظام اللبناني والدولة مع المواطنين. ومنها سؤال أول عن سبب تهميش الأرمن في مختلف الميادين. وسؤال ثان عن كيفية تعامل الدولة على مر الأجيال والعهود مع حاجات المواطنين الأرمن وتطلعاتهم. لكن هناك ما يطمئن إلى عدم الفئوية، حيث أن حرمان برج حمود مماثل لحرمان برج البراجنة وحي السلم وبئر العبد، وكذلك الضنية وعكار والهرمل وجرود جبيل والبقاع الغربي من المناطق. فمن سوّاك بنفسه ما ظلمك!... في ذكرى 13 نيسان 1975 كما في ذكرى 24 نيسان 1915 نبحث عن العبر، ويتوحد في استذكار الحوادث الأليمة اللبنانية جميعا بحثا عن الوسائل الأقل كلفة في تسوية النزاعات، سعيا إلى أسس عادلة للعلاقات بين الناس تضمن حقوق الجميع وحرياتهم. * مديرة معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف |