الدعوة البانطورانية وسبل احتواء مجازر مستقبلية |
د. مرغريت حلو البانطورانية دعوة ترمي الى جمع كل من هو من أصل طوراني في إطار كيان اجتماعي وسياسي واقتصادي موحد. فعلى الصعيد الإجتماعي تعمل هذه الدعوة على إحياء الثقافة الطورانية وتعزيز مقوماتها في نفوس أتباعها عبر التذكير بأمجاد وتاريخ وأبطال الشعب الطوراني وإنجازاتهم (كجنكيزخان وتيمورلنك). وهي بهذا تهدف إلى إحياء الحس بالإنتماء إلى وحدة متجانسة تفخر بماضيهاوتطمح لمستقبل باهر. أما على الصعيد السياسي فهي دعوة لإنشاء كيان موحد مستقل يضم جميع الدول التي يتواجد فيها الطورانيون. كما ترمي على الصعيد الإقتصادي إلى وضع جميع الطاقات الطبيعية والبشرية والإقتصادية في خدمة هذا الكيان وشعبه لإعلاء شأنه إقليميا ودوليا. وهذه الدعوة تعتمد العنصرية وترتكز على عنصري العرق واللغة، إضافة إلى عامل الدين أحياناً. ورغم ان جذورها تعود إلى ما قبل القرن الحالي (بين أتراك الامبراطورية الروسية) إلا انها لم تتبلور بشكلها الحاضر إلا في السنوات الأخيرة من عهد الأمبراطوريةالعثمانية. فقد ظهرت بقوة آنذاك كرد على تردي الأوضاع في امبراطورية الرجل المريض وفشل جميع محاولات الإصلاح، وقدمت نفسها كبديل (عن الإسلام والتنظيمات) قادر على استعادة موقع وهيبة الأمة التركية والطورانية وإن بمساحة أصغر من مساحة الأمبراطورية العثمانية. وكان من أهم فرضياتها كون الاسلام، والخيانة من قبل غير الأتراك، هم المسؤولين الأساسيين عن البلاء الذي حل بهذه الأمبراطورية. عمليا، تندرج الدعوة البانطورانية تحت ما يسميه علماء والامثلة على هذا النوع من الاهداف عديدة في القرن الحالي. فإلى جانب الدعوة البانطورانية بقيادة تركيا كان هناك الدعوة الشيوعية ودور الاتحاد السوفياتي في محاولة فرضها، والدعوة الشيوعية ودور الاتحاد السوفياتي في محاولة فرضها، والدعوة إلى الوحدة العربية ودور مصر عبد الناصر في محاولة قيادتها، ودعوة هتلر والحرب العالمية الثانية التي نتجت عنها والدعوة الايرانية إلى توسيع رقعة الثورة الاسلامية واخيرا وليس آخرا هناك الدعوة الاميركية اليوم، والتي لم يتبينها الكثيرون بعد، والتي تطلق بشكل علني حينا وضمني احيانا لقولبة النظام الدولي الجديد على النمط شهدت الدعوة الطورانية صعودا وهبوطا في مسارها منذ بروزها بقوة مطلع هذا القرن وحتى يومنا هذا. لكنها عادت واطلقت بزخم على اثر تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات الاسلامية عنه. فلقد خلق تفكك الجبار السوفياتي فراغا على صعيد القوى خاصة في هذه المنظقة. ودغدغ هذا الواقع الجديد أحلام الساسة الأتراك الذين عادوا لاطلاق الدعوة البانطورانية لتحقيق هدفين: اولا سد هذا الفراغ بهدف تعزيز موقع تركيا واعلاء شأنها امام أعين الغرب بعد أن تهددت اهميتها بالتناقص على أثر زوال الخطر السوفياتي؛ وثانيا لاحتواء المد الاسلامي (الايراني والسعودي) من خلال تقديم البديل العلماني القادر على استقطاب الشعب التركي في هذه المناطق ومواجهة المد الأصولي على أنواعه. ومعالجة هذه الدعوة في مبادئها وأبعادها المختلفة يتطلب كتابة مجلدات، لذلك سنحصر بحثنا هنا في الاجابة على سؤال بالغ الاهمية اليوم هو: مدى امكانية تحقيق هذه الدعوة فعليا في ظل الاوضاع من حيث المبدأ، يتطلب تحقيق هكذا دعوات توفر ظروف داخلية وخارجية مؤاتية. فعلى الصعيد الداخلي يجب ان تتوفر الشروط التالية: استقرار سياسي. وتكفي نظرة سريعة إلى الاوضاع التركية الداخلية لتظهر غياب هذه العوامل. فالاستقرار السياسي غير متوفر في ظل الفضائح التي تطال الساسة الاتراك بدءا بمسعود يلماظ وطانسو تشيلر وزعماء الرفاه وغيرهم. كذلك ان تفكك احزاب اليمين والاختلافات الجذرية بين احزاب اليمين واليسار والاحزاب الدينية هددت وتهدد اي ائتلاف حكومي قد يقوم وتزيد في حدة الصراع على السلطة. هذا بالاضافة إلى ما قد ينجم عن وصول الاسلاميين إلى السلطة وعن تردي العلاقات التركية – وليست الصورة بأفضل على الصعيد الاقتصادي خاصة إذا استندنا إلى المؤشرات الاساسية كالتضخم والغلاء ومعدل النمو والبطالة وغيرها. ويكفي ان نشير هنا إلى ان الاوضاع الاقتصادية في تركيا لا تؤهلها للمغامرة والامتداد خارج حدودها. فمتطلبات القيادة تتجاوز بكثير متطلبات الاستقرار الاقتصادي الداخلي. ولعل في تجارب بعض الدول الكبرى خير برهان. أما على صعيد وضوح الدعوة فنجد أنها لم تطلق اليوم بالوضوح الذي أطلقت به مطلع القرن. والسبب عائد اساسا إلى العوائق الاقليمية والدولية في وجه هكذا تحرك تركي. وهذه الدعوة هي بالنسبة للبعض الآخر مجرد دعوة إلى التنسيق الإقتصادي فقط بشكل يخدم مصالح رؤوس الأموال التركية والعالمية، وهي بالنسبة لبعض أتباعها محاولة لتوحيد الطورانيين، في ظل كيان سياسي واحد يجعل من تركيا الحالية تركيا كبرى وقوة إقليمية ودولية لا يستهان بها، لما ستضع يدها عليه من موارد طبيعية وبشرية واقتصادية ومالية هائلة. كذلك ليس هناك من وضوح حول ما إذا كانت هذه الدعوة تعتمد على الدين أو أنها تكتفي بالعنصر والعرق واللغة أساسا لبلورتها في اطار علماني. فإذا كان الدين من مرتكزاتها فإنها مرشحة لخلق أما إذا أبقيت هذه الدعوة ضمن إطار علماني فحظوظها بالنجاح ليست بأفضل في ظل معطيات تشير إلى أن الأتراك لا يستطيعون حتى اليوم، وبعد عقود من النظام العلماني، أن يفصلوا بين كونهم وتقلل هذه العوامل من إمكانية حصول هذه الدعوة على الدعم الشعبي المطلوب، خاصة في غياب القائد القادر على استقطاب الجماهير. فالصفات الواجب توفرها في هذا القائد غير متوفرة في أي من الساسة على الساحة التركية. وأخيراً، تشكل الفوارق الأساسية في مستوى النمو السياسي والإقتصادي والإجتماعي بين تركيا والبلاد المستهدفة بالدعوة الطورانية عائقا يضاف إلى العوائق أعلاه على طريق تنفيذ مثل هذه الدعوة. وهذا ما دفع بتورغوت اوزال ومن بعده ديميريل إلى تخفيف حدة حماسهم في اطلاق هذه الدعوة. أما فيما يتعلق بالعوامل الخارجية نجد انها ايضا غير مشجعة لتحقيق الحلم الطوراني. فإذا سلمنا مع القائلين بأن النطام الدولي اليوم هو نظام آحادي القطب لوجدنا ان من اهم خصائص هذا النظام هي وقد يشير البعض إلى كون الولايات المتحدة اليوم بحاجة إلى تركيا كبرى لتحقيق توازن مع اوروبا موحدة وللحد من اية طموحات روسية. وفي هذا نقض للتسليم بأحادية القطب. برأينا ان الولايات المتحدة اليوم هي بحاجة إلى تركيا قوية ومستقرة تلعب دور Pivotal State ولكنها ليست بحاجة لتركيا كبرى تهدد مصالحها. ولكن النظام الدولي اليوم، كما تظهر المراقبة الدقيقة للاحداث والاوضاع، ليس نظاما احادي القطب بل يمر في مرحلة انتقالية تشهد عمليات شد حبال بين مراكز قوى متعددة في محاولة لرسم هيكلية "إن تطوير تركيا، وبصورة خارجة عن السيطرة، للعلاقات مع الجمهوريات التي أعلنت استقلالها، سوف يخل بتوازن القوى الموجود في البلقان والقفقاز وآسيا الأمامية وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وبهذا نجد أن احتمال تبلور الدعوة البانطورانية واقعيا ضئيل جدا في ظل المعطيات الحالية. لذا لا بد من التساؤل حول الأسباب الكامنة وراء الإستمرار في طموحها. بالتأكيد ان هذا الطرح ليس نتيجة ولكن التشديد على وجود هذه العوائق بوجه تحقيق الدعوة البانطورانية لا يعني ابدا التسليم باستحالة انحراف البعض نحو محاولة تنفيذها. وهنا تبرز أهمية الشق الثاني من موضوعنا والمتعلق بسبل احتواء مجازر مستقبلية. سبل منع واحتواء مجازر مستقبلية: ان التوصل إلى حلول عملية وفعالة للتعاطي مع جرائم الابادة الجماعية يقتضي توافقا دوليا حول النقاط الاساسية التالية: تعريف عملية الإبادة الجماعية او المجازر. إذا تعمقنا في دراسة التاريخ وكيفية تعاطي الدول مع مرتكبي المجازر قبل الحرب العالمية الثانية، ودراسة ما جرى ويجري في أروقة الامم المتحدة والمناقشات التي دارت والمداخلات التي تقدم بها ممثلوا الدول الكبرى والصغرى، لوجدنا ان التوافق المطلوب حول النقاط أعلاه غير متوفر. وفي حال توفره، اقتصر هذا التوافق على بعض النقاط وبقي توافقا على الصعيد النظري دون الوصول إلى اتفاق على آلية التطبيق عمليا وبصورة فاعلة. فلطالما اعتبرت الدول قبل 1945 ان حق التدخل الانساني لمصلحة جماعات مضطهدة يشكل مبدأ من مبادئ القانون الدولي. والامثلة على هذا النوع من التدخل عديدة تم الاستناد إلى العديد منها كسوابق في محاكمات نورمبرغ. غير ان هذا التدخل بقي محصورا باعلان مشترك او تصريح او اعتراض على سياسة ما، ولم يحصل التدخل الفعلي إلا عندما فرضته المصلحة الوطنية للدولة المتدخلة، ولم يدخل مفهوم "الابادة الجماعية" (genocide) في الإستعمال إلا في النصف الثاني من القرن الحالي. ويعود الفضل في إدخال هذا التعبير إلى القاموس السياسي إلى الحقوقي رافائيل لمكين (Raphael Lemkin)الذي قام منفردا بحملة واسعة النطاق وقدم اقتراحا إلى المؤتمر الدولي حول توحيد القانون الجنائي (1922) يقضي بإعتبار القضاء على الجماعات العرقية أو الدينية أو الاجتماعية جريمة بربرية في ظل القانون الدولي. وعرف لمكين "الإبادة الجماعية" (genocide) بأنها عملية تدمير أمة او جماعة أثنية. وأضاف أنه لا يمكن حصر مفهوم الإبادة بالتدمير الفوري وكان للمجازر التي قام بها النازيون، ولجهود لمكين، أثرها في احقاق اول اعتراف دولي رسمي بكون الإبادة جريمة، ووضع أسس التدخل قضائيا لمعاقبتها، وتم ذلك في محاكمات نورمبرغ. كذلك كان لهذه المجازر ولجهود لمكين اثرهما في جعل مشكلة منع الإبادة الجماعية ومعاقبتها موضوعا مطروحا على الامم المتحدة، وهي لا زالت في أول عهدها، للتعاطي معها بجدية. وكانت اولى الخطوات تبني الجمعية العامة القرار رقم 96/1 تاريخ 11 كانون الاول 1946 المتعلق بجريمة الإبادة. ولقد اعتبر هذا القرار الإبادة جريمة يعاقب عليها القانون الدولي بغض النظر عن كونها ارتكبت لأسباب دينية او عرقية او سياسية او غيرها، ودعا أعضاء الامم المتحدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي لاتخاذ الخطوات اللازمة لصياغة معاهدة دولية حول هذا الموضوع. وبعد مداولات مضنية وشاقة وتنقيح النص من قبل عدة لجان اوجدت لهذا الغرض تم التوصل إلى "اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها". وصادقت الجمعية العامة على هذه الاتفاقية بتاريخ 9 ك1 1948. عرفت المادة الثانية من هذه الاتفاقية "الابادة" بأنها: قتل أعضاء هذه الجماعة. ويحتوي هذا التعريف على المقدمات التي تهدد بفشله، وتتركز بمعظمها حول إدخال مفاهيم لايمكن قياسها وتحديدها موضوعيا بحيث يفتح المجال واسعا أمام التفسيرات القيمية والايديولوجية كما امام السلطة الاستنتاجية للدول والحكومات وما يهدد به كل هذا من تقليل فرص التوافق اولا حول حصول الجريمة وثانيا حول سبل التعاطي معها. فلقد غابت عن هذا التعريف الإبادة على أسس سياسية والتي سبق ان وردت في اتفاقية 1946. ويطلق هذا الاستثناء يد الحكومات في ارتكاب المجازر ضد مئات من شعبها على أسس سياسية كغطاء لأسباب أخرى. وفي أحداث رواندا وبوروندي والسياسة التركية تجاه الأكراد خاصة في السنوات الأخيرة خير أمثلة على إمكانية الالتفاف على أية تهمة بممارسة الإبادة عبر ادراج أعمال الإبادة تحت عنوان حرية الحكومة في ضبط الاوضاع السياسية داخل حدودها. ورغم وجود درجة من الصحة في الاعتراضات التي قدمت لتبرير عدم ادخال الإبادة على أسس سياسية ضمن التعريف، والتي كان أهمها أنها ستؤدي إلى رفض عدد كبير من الدول التصديق على المعاهدة لأنها ستسمح بتدخل الدول بشؤون بعضها البعض الداخلية تحت اعذار واهية، يبقى الاصرار على استثناء هذا النوع من الإبادة اقرار بغياب النية لدى هذه الحكومات لنبذ الابادة كوسيلة تستعملها الحكومات ضد معارضيها. وتكمن المشكلة الثانية في مفهوم "النية" (Intent) الذي ورد في هذا التعريف. ولأن اثبات وجود النية أصعب من اثبات عدم وجودها يصبح من السهل على الدول رفع تهمة الإبادة عنها والتنصل من ويزيد تعبير "كليا او جزئيا" الوارد في التعريف في صعوبة تحديد حصول الإبادة والقائم بها والجماعة المستهدفة. فما هو العدد المطلوب لتكون الإبادة "جزئية"؟ هذا سؤال تصعب الاجابة عليه خاصة عندما تتم الابادة على مراحل او تستهدف النخب والقيادات السياسية او الاقتصادية. والامثلة في تاريخنا الحديث لا تعد ولا تحصى. هذا، بالاضافة إلى المشاكل التي اعترضت، ولا زالت تعترض الامم المتحدة، واليوم أكثر مما مضى، في محاولة تحديدها لخصائص عملية الابادة وانواعها. كما في تحقيق الاتفاق على انواع العقوبات التي يجب فرضها، وخلق آلية دائمة وفاعلة مسؤولة عن البت بهذه الجرائم والتعاطي معها، يزيد من قناعتنا حول غياب النية لدى الدول في التخلى عن هذا الأسلوب كوسيلة من وسائل تنفيذ الاهداف والطموحات السياسية. كما يجعل من أية محاولة لردع الحكومات عن القيام بالمجازر أمرا صعبا إذ أنها بالنتيجة الحكم والجلاد في آن معا. والمعيار دوما المصالح السياسية والاقتصادية على حساب الانسان. وفي سكوت الدول الكبرى والصغرى معا عن الإبادة الثقافية التي تمارسها تركيا ضد الاكراد (إلى جانب غيرها من أنواع الإبادة) والإبادة البيئية التي تمارسها ضد سوريا (عبر مياه الصرف التي تقضي على الزراعة وتهدد مقومات البقاء في المناطق السورية الحدودية مع تركيا)، وغيرها مما يجري في أنحاء العالم خير دعم لقناعتنا هذه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المجازر والابادة الجماعية او الجزئية، تماما كما الحروب، قد تكون وسيلة لاعادة التوازن بين البشر والموارد، ووسيلة لتخفيف الاعباء عن كاهل الدول الكبرى خاصة في وهذا لا يطرح الاسئلة فقط حول سبل منع واحتواء مجازر مستقبلية، بل يطرح أهم حول مصير الديموقراطية، وأولى اهتماماتها (أي الانسان). في ظل عالم يتميز بالصراع على القوة والنفوذ داخليا وخارجيا، وبايلاء المصالح على أنواعها شأنا اعلى من شأن الانسان. |