دراسات

العلاقات التاريخية الأرمنية - العربية

نيكولاي هوفهانيسيان
محاضرة القيت في مركز الدراسات الارمينية في جامعة القاهرة 2007

ينتمي العرب والأرمن لأكثر الشعوب القديمة تحضراً في الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي طالما لعبت دوراً هاماً وفي بعض الأحيان حاسماً في تاريخ العالم. ولم يفقد الشرق الأوسط المعاصر أهميته بل مازال يمثل قيمة جيوبولوتيكية واستراتيجية فريدة ويؤثر بشكل مباشر على العلاقات الدولية وتشكيل السياسة الدولية.

لذلك فإن دراسة العلاقات الأرمنية–العربية ضرورية ليس فقط من منطلق العلاقات الثنائية الأرمنية–العربية بل أيضاً من أجل فهم أفضل للتاريخ القديم ومشاكل الشرق الأوسط الجغرافية الاستراتيجية.
وما زال العرب والأرمن، الذين ظهروا على مسرح التاريخ منذ آلاف السنين، عكس كثير من شعوب المنطقة، مثل الأشوريين والبابليين والحيثيين والقوقازيين والألبانيين وغيرهم، والذين اختفوا من التاريخ، يواصلون مسيرتهم التاريخية دون انقطاع وليس هناك أي بادرة توحي بأن القافلة قد تعبت أو آن لها أن تستريح.
العلاقات الأرمنية-العربية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وشملت عملياً على كل مناحي الحياة. وتقدم هذه الورقة في المقام الأول توضيحاً مختصراً للعلاقات التاريخية العربية-الأرمنية البينية والاتصالات السياسية والتعاون بين الجانبين.

1- المصادر
قد يكون منطقياً أن نبدأ البحث في العلاقات الأرمنية-العربية الشديدة الثراء باستعراض بعض المصادر الأساسية التي تصلح لأن تكون خلفية يعتمد عليها في هذا الموضوع.
فلنذكر أولاً المصادر الأرمنية، والتي تتمثل في الكتابات التاريخية الكلاسيكية الأرمنية والتي ظهرت في القرن الخامس بعد أن اخترع Mesrop Mashtots الأبجدية الأرمنية في عام 405. ومنذ ذلك التاريخ أصبح الموضوع العربي أحد الموضوعات الرئيسية في الكتابات التاريخية الأرمنية.

وكتب المؤرخون الأرمن في العصور الوسطى مثل Sebeos, Ghevond, Hovhannes Draskhanakertci Tovma Artzruni, Movses Kaghankatvaci, Mekhitar Aneci, Vardan

Arevelci, Grigor Tatevaci وغيرهم عن موضوعات هامة مثل الأحداث التاريخية والسياسية في العالم العربي وعن نشأة الإسلام وعن المسائل الدينية ومن الطبيعي أيضاً عن العلاقات الأرمنية-العربية في مختلف المجالات. لقد ترك لنا المؤرخون القدامى معلومات قيّمة حوتها كتب

التاريخ الأرمنية عن العرب كعرق وعن بلادهم وجغرافيتها وتاريخها وطريقة معيشتهم وقبائلهم الخ. ولقد كان ذلك أحد الركائز التي استندت إليها الدراسة عن العلاقات التاريخية الأرمنية-العربية. وبالمناسبة كان المؤرخ الأرمني سيبيوس Sebeos الذي عاش في القرن السابع الميلادي أول أجنبي – أي مؤلف غير عربي – تحدث في كتاباته عن النبي محمد وكانت تعليقاته الأصلية تدور حول ديانة عالمية جديدة – الإسلام.

ومن ناحية أخرى فإنه من الهام جداً عند دراسة التاريخ الأرمني أن نأخذ في الاعتبار التراث التاريخي العربي الكلاسيكي والذي تكون في القرن التاسع الميلادي وما بعده. لقد ترك لنا المؤرخون والجغرافيون العرب معلومات قيّمة ليس فقط عن العلاقات الأرمنية-العربية، بل كذلك عن أرمينيا كبلد وعن كيانها السياسي وعن اقتصادها وثقافتها.. الخ. ونحن نعني بذلك مؤرخين عرب مشهورين مثل البلاذري وهو مؤسس علم التاريخ العربي الكلاسيكي، والطبري والمسعودي، وابن العسير، والمقريزي، وأبو الفداء، والقاضي بهاء الدين بن شداد وغيرهم والجغرافيين العرب من أمثال الاصطخري وابن بطوطة وابن الفقيه وابن حوقل والمقدسي وياقوت الحموي... الخ.
وهكذا يمكننا القول بأن الكتابات التاريخية العربية هي الركيزة الثانية في دراسة العلاقات الأرمنية-العربية.
وخلال عصور التاريخ تم ترجمة العديد من المصادر العربية من اللغة العربية إلى اللغة الأرمنية بواسطة مؤلفين أرمن ونود أن نذكر هنا بعضاً منهم. قام العالم اللغوي الأرمني الشهير Hrachya Acharyan بترجمة مقتطفات من رحلات ابن بطوطة تحت عنوان "ابن بطوطة" والتي صدرت عام 1940 باللغة الأرمنية مع النص العربي. كما ترجم المستعرب الأرمني البارز Hakop Nalbandyan ونشر كتاب "المصادر العربية عن أرمينيا والأرمن" ضمنه مقتطفات من كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي، و"المختصر في أخبار البشر" لأبو الفداء، وكتاب "سيرة صلاح الدين الأيوبي" للقاضي بهاء الدين بن شداد. وقام Dr. Aram Ter-Chevondyan بترجمة "ابن الأثير" من العربية إلى الأرمنية اعتماداً على مصدرين هامين لهذا المؤرخ العربي وهما كتاب "الكامل في التاريخ" و"تاريخ دولة الأتابك". وقد صدر مؤخراً مجلد جديد تحت اسم "مصادر عربية" أعده نفس المؤلف. وأورد المؤلف في مجلده مقتطفات من أعمال المؤرخين العرب أبو يوسف ابن هشام والواقدي وخليفة بن الخياط وابن قتيبة ودينافاري وبلازوري واليعقوبي والجغرافيين الخوارزمي والجاحظ وابن خردادية وابن الفقيه وابن رسته والفرغاني وقدامة بن جعفر والاصطخري وابن حوقل – وهم 18 مؤرخاً وجغرافياً من القرن التاسع والقرن العاشر. وكان من نتيجة ترجمة هذه المصادر العربية وغيرها أن أصبحت بمثابة ملكية خاصة للعلماء الأرمن كما تحولت من ظاهرة عربية إلى ظاهرة أرمنية، الأمر الذي ساعد العلماء الأرمن كثيراً في أبحاثهم العلمية.
وجنباً إلى جنب مع المصادر الأرمنية والعربية لا بد أن نعترف بأهمية المصادر الرومانية والاغريقية مثل ستاربو Strabo وجوستينيان وجوزيف فلافيوس Joseph Phlavios وأبيانوس Appianos. وغيرهم. وجميعها كانت تحتوي على معلومات هامة عن العلاقات الأرمنية-العربية خاصة فيما يتعلق بالزمن القديم.
ومجموعات المصادر الثلاث تلك هي الأعمدة الرئيسية التي لا بد من الاستناد عليها عند دراسة العلاقات الأرمنية العربية من العصور القديمة حتى سقوط الدولة الأرمنية في القرن الحادي عشر وسقوط الخلافة العربية في القرن الثالث عشر.

ولكن طبيعة المصادر التي تتحدث عن العلاقات الأرمنية العربية اختلفت في الفترات اللاحقة. ففي فترة التاريخ الجديد والتي تشمل القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين، ظهر صنف جديد من المصادر مثل: قرارات صادرة عن منظمات مختلفة وجمعيات ولجان وأحزاب سياسية وقرارات صادرة عن مؤتمرات وبيانات لقادة سياسيين ودينيين وعسكريين بارزين وبرلمانيين وكذلك مواد تنشرها الصحف.. الخ. وهذا لا يعني أن المؤرخين توقفوا عن دراسة المسائل المذكورة أعلاه ولكن الأمر ببساطة هو أنه في تلك الفترة أصبحت المصادر الجديدة التي ذكرناها هي السائدة.
وبالنسبة للعصر الحاضر، الذي شهد حصول الدول العربية على استقلالها السياسي في الفترة من الأربعينات إلى السبعينات من القرن الماضي ثم أرمينيا عام 1991 كان من الطبيعي أن تصبح المصادر الرئيسية هي الوثائق الرسمية والمعاهدات والمؤتمرات والاعلانات العامة والمشروعات العامة والبرامج والمذكرات.. الخ.

2- العلاقات الأرمنية-العربية البينية
(من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الرابع عشر الميلادي)
تتميز العلاقات الأرمنية-العربية بوجود علاقات بين شعبيهما في الفترات التي كان للشعبين فيها دولته المستقلة. وتمتد تلك الفترات عبر 15 قرناً من الزمان من القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن الرابع عشر بعد الميلاد. وخلال تلك الفترة تأسست علاقات سياسية، حميمة جداً في بعض الأحيان، بين الأرمن والعرب على مستوى الدولة. بدأت تلك العلاقات، كما تدل على ذلك الوقائع التاريخية، من فترة الملك الأرمني ديكران الكبير Tigran the Great حتى سقوط مملكة كيليكية في القرن الرابع عشر.
كانت أرمينيا ابان حكم الملك ديكران الكبير (95-55 قبل الميلاد) واحدة من أقوى دول الشرق الأوسط. ففي الفترة بين 89-85 قبل الميلاد هزم الملك ديكران الفرس وأجبر ملكهم (الشاه) على التنازل للملك ديكران عن لقب "الشاهنشاه" أي ملك الملوك. وخضع عدد من ملوك الدول التي كانت حتى ذلك الوقت تابعة للفرس كملك حدياب Adiyaben وملك كوردوق Korduq وملك أذريبيجان Atrpatakan، للملك الأرمني.

تخلت إيران عن بلاد ما بين النهرين Mesopotamia لملك الأرمن. وكان الوضع غاية في التعقيد في سوريا، حيث عمت البلاد فوضى سياسية حادة. وما ذكر هوستينيانوس hustinianos " قرر الشعب الاعتماد على المساعدة الخارجية. وطالب بعض الناس باستدعاء مهريدات
ملك بونتوس Pontos بينما فضل آخرون بطليموس ملك مصر، وعارض البعض استدعاء مهريدات لأنه كان في حرب مع روما، والبعض الآخر لم يقبل ببطليموس لأنه كان دائماً عدواً لسوريا. إلا أنهم وافقوا جميعاً على الملك ديكران ملك أرمينيا الذي كان لديه قواته الخاصة به وكان في نفس الوقت حليفاً لإيران وزوج ابنة مهريدات". وهكذا طلب كبار القوم السوريون بدعوة الملك ديكران الكبير ليحكم سوريا. ويذكر المؤرخ هوفسيبوس بلافيوس أن ديكران دخل سوريا على رأس جيش قوامه 300 ألف مقاتل. ولم يكتفي ديكران بضم شمال سوريا، بل أيضاً كيليكية وجنوب سوريا وفينيقية (لبنان) ومعها مدن بيروت واللاذقية وفلسطين. ويرى المؤرخ سترابو أن المملكة اليهودية كانت تعتمد على المملكة الأرمنية. وأكد المؤرخ أبيانوس أن منطقة الشرق الأوسط بأكملها حتى حدود مصر كانت تدين بالولاء للملك ديكران الكبير.

وأكد كل تلك الحقائق باحثون عرب أمثال فؤاد حسن حافظ ومروان المدور وسمير أربش وعثمان الترك وغيرهم.
ظلت تلك المناطق ضمن المملكة الأرمنية حوالي 20 عاماً. ففي عام 66 قبل الميلاد عقدت في أرتاشاط Artashat عاصمة أرمينيا في ذلك الوقت، معاهدة بين أرمينيا وروما اضطر الملك ديكران بموجبها على التنازل عن جميع الأراضي العربية وتسليمها لروما.

كانت تلك السنوات العشرون سنوات سلام، ساد فيها النظام والأمن في المناطق العربية وازدهر الاقتصاد والثقافة. وكانت تلك الفترة أول تجربة تاريخية للتعايش بين الأرمن والعرب في دولة واحدة. وبفضل هذه التجربة باشر الأرمن والعرب الاتصال المباشر فيما بينهم والذي أدى فيما بعد إلى فهم أفضل لأفكار الشعبين ورغباتهما وعاداتهما. وعادة ما يثمن المؤلفون العرب عالياً الحيوية السياسية للملك ديكران وكانوا يطلقون عليه "ملك آسيا العظيم".

لقد أفرزت العلاقات الأرمنية-العربية البينية أمراً هاماً، أو لنقل أنه ظاهرة تاريخية فريدة. فطبقاً لبعض المصادر العربية والأرمنية كذلك التي تعود إلى الفترة من 136 قبل الميلاد إلى 216 بعد الميلاد كانت توجد امارة اسمها الرها. ويقول المؤرخ المصري فؤاد حسن حافظ في كتابه القيم "تاريخ الشعب الأرمني منذ البداية حتى وقتنا الحاضر" أن امارة الرها كان يسكنها خليط من الأرمن والعرب وكتب يقول "خلال تلك الفترة (من عام 13-51 ميلادية) حكم الامارة الأرمنية-العربية ملكاً أرمنياً هو أبجار الخامس Abgar the V. ويوافقه في الرأي المؤرخ الأرمني هوفهانز دراسكهاناكيرتسي
Hovhannes Draskhanakertci في كتابه تاريخ الأرمن. ولكن للأسف فإن المعلومات الخاصة بهذا الحديث غير المسبوق ضئيلة وليس بمقدورنا إلقاء الضوء على تفاصيلها. ولكن تلك الحقيقة هامة جداً في حدّ ذاتها وتستحق قدراً أكبر من البحث والتمحيص. وهي من ناحية أخرى
تظهر المستوى العالي الذي كانت عليه الاتصالات السياسية الأرمنية-العربية في تلك الأزمنة البعيدة.
مع بداية القرن السابع ظهر على ساحة التاريخ عملاق سياسي جديد هو الخلافة العربية. كانت الخلافة العربية نقطة تحول ليس فقط بالنسبة لتاريخ الشعب العربي ولكن أيضاً بالنسبة للشرق الأوسط بأكمله، بل أيضاً بالنسبة للعالم كله – ولم لا. فقد أدى قيام الامبراطورية العربية القوية إلى تغير ميزان القوى في العالم وخلق وضعاً جغرافياً سياسياً جديداً في منطقة الشرق الأوسط بأكملها. فقد أثر قيام الخلافة العربية بشكل جذري على مصير عدد من الدول والشعوب ومن بينهم الأرمن.

ادمجت أرمينيا في الخلافة العربية خلال السنوات (642-648). ومرة أخرى ظهر الأرمن والعرب في دولة واحدة، ولكن في هذه المرة داخل دولة عربية. وكونت منطقة إدارية أسمتها أرمينية التي كانت تضم أرمينيا وجورجيا وألبانيا القوقازية (Arran).

كانت سياسة الحكام العرب تجاه الأرمن تتسم بالحذر وأحياناً بالحكمة. فلم يتبعوا سياسة استيعاب الأرمن ولم يضغطوا عليهم لتغيير ديانتهم المسيحية والدخول في الإسلام. وبالطبع، كانت هذه السياسة غاية في الحكمة ومهدت الطريق لتعاون سياسي وعسكري بين الأرمن والعرب. ومن الأمور الهامة أيضاً أن الخلافة العربية لم تلجأ إلى تصفية طبقة الأمراء الأرمن، بل حافظت على حقوقهم وامتيازاتهم وفي بعض الأحيان كانت تترك لهم قواتهم العسكرية التي تعاونت مع القوات العسكرية العربية. ولعل هذا يفسر لماذا يغلب على الدراسات التاريخية الأرمنية الاعتقاد بأن الهيمنة العربية على أرمينيا تختلف تماماً عن الهيمنة الفارسية وعلى الأخص عن الهيمنة العثمانية والتي اتسمت بالظلم والتي كانت بمثابة كارثة حقيقية على جميع الشعوب التي وقعت تحت نير الحكم العثماني – كالعرب والأرمن والأشوريين واليونان والسلاف وغيرهم... الخ.

تمتعت أرمينيا بوضع خاص في دولة الخلافة والذي تأكد بإبرام معاهدة بين العرب والأرمن في عام 652، وقعها حاكم أرمينيا الأمير تيودور الرشتوني Theodor Rishtuni وحاكم سوريا والخليفة القادم معاوية. ووصف المؤرخ الأرمني سيبيوس Sebeos المعاهدة التي ضمنت لأرمينيا استقلالاً داخلياً بأنها "معاهدة سلام". ونصت المعاهدة على قيام تعاون عسكري بين أرمينيا ودولة الخلافة. كما حصلت أرمينيا بموجب المعاهدة على حق الاحتفاظ بقوات عسكرية خاصة بها تحت قيادة أرمنية. واعتبرت المعاهدة كذلك بمثابة اتفاق دفاع مشترك في حالة تعرض أي من الجانبين لأي عدوان. وفي المقابل أقرت أرمينيا بسيادة دولة الخلافة وقبلت دفع الجزية لدولة الخلافة. والواقع أن أرمينيا قبلت بموجب المعاهدة وضع الدولة شبه المستقلة. ورضي الطرفان بالشروط الواردة بها.
ويجب أن نعترف بأن كلا الطرفين التزما بشروط المعاهدة. في الثلاثينات من القرن الثامن غزا الخرز أرمينيا وشيروان وأذربيجان فتصدى لهم مروان ابن محمد وشن ضدهم حملة عام 737 لطردهم من تلك المناطق. قامت القوات الأرمنية وفي مقدمتها الفرسان بقيادة الأمير وقائد القوات الأرمنية أشوت بجراتون Ashot Bagratuni بدور فعّال ضد الغزاة. وتمكنت القوات العربية-الأرمنية من إلحاق الهزيمة بقوات الخزر الذين انسحبوا من أرمينية والمناطق الأخرى في دولة الخلافة.
ويروي المؤرخ الأرمني شابوه بجراتوني قصة ذات مغزى عن التعاون العسكري بين القادة العرب والأرمن. إذ يقول أن الأمير الأرمني جريجور أرتزروني أرسل إلى الخليفة فرسا وسيفا وعدة حرب كإشارة على موقفه الودي تجاهه وتأييده له في حربه مع أعدائه.

في أواخر القرن التاسع دخلت العلاقات العربية-الأرمنية البينية مرحلة جديدة. ففي عام 885 أعلنت أرمينيا استقلالها. وسارعت دولة الخلافة العباسية بالاعتراف باستقلال أرمينيا كما أرسل الخليفة المعتمد تاجاً ذهبياً لأول ملك على أرمينيا المستقلة أشوت بجراتوني الأول مما يعد اعترافاً رسمياً به ملكاً شرعياً على دولة جارة مستقلة هي أرمينيا. واستمرت علاقات حسن الجواريين الدولتين حوالي 200 عام إلى جانب التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
ولكن هذه العلاقات انقطعت في القرن الحادي عشر عندما سقطت مملكة بجراتوني الأرمنية عام 1045 في أيدي الامبراطورية البيزنطية العدو اللدود لدولة الخلافة العربية.

وبسقوط الدولة الأرمنية ساء الوضع السياسي في الشرق الأوسط مما خلق ظرفاً مواتياً لتغلغل العديد من القبائل البدوية التركية من ألتاي ووسط آسيا. وتحت الضغط المتواصل من تلك القوات سقطت بغداد في عام 1256 ومعها دولة الخلافة العباسية. وادخر التاريخ نفس المصير للامبراطورية البيزنطية. ففي عام 1453 استولى الأتراك العثمانيون على القسطنطينية ومن ثم قامت الامبراطورية العثمانية على أنقاض مملكة أرمينية ودولة الخلافة العباسية.
وتلا سقوط مملكة بجراتوني وأثناء الأحداث التي ذكرناها أعلاه وقع حدث غير عادي. فقد هاجر كثير من الأرمن إلى كيليكية على البحر المتوسط. وفي عام 1080 أعلن عن قيام إمارة أرمنية باسم مملكة أرمينيا في كيليكية.
وهكذا قامت مملكة أرمينية جديدة وشرعت في إقامة علاقات سياسية وإقتصادية وتجارية وثقافية مع الدول العربية المجاورة وفي مقدمتها مصر. في عام 1323 عقدت معاهدة تعاون بين مملكة كيليكية الأرمنية ودولة المماليك في مصر.

ولكن لا بد أن نلاحظ أن الوضع السياسي لم يعد ملائماً للمملكة الأرمنية في ذلك الوقت. ومن بين الأسباب التي أدت إلى ذلك حملات الصليبيين الذين حاولوا استخدام مملكة أرمينيا والدولة البيزنطية كقاعدة لأغراضهم السياسية والتي لا تمت بصلة إلى السيد المسيح. لقد كانوا في واقع الأمر مغامرين سياسيين وكان ما يسمى بجيشهم يتكون من أفراد العصابات واللصوص ورجال كان هدفهم الأساس الثراء على حساب السكان المحليين. ووضعت أفعال الصليبيين المملكة الأرمنية في كيليكية في موقف معقد أدى في نهاية الأمر إلى إفساد علاقاتها مع جيرانها. وفي عام 1385 سقطت أيضاً مملكة كيليكية الأرمنية.

3- الأرمن في خدمة الدولة العربية
إن جزءاً كبيراً من العلاقات الأرمنية-العربية يتمثل في مشاركة العديد من الأرمن البارزين في مختلف مجالات خدمة الدولة – في الحكومة وفي الجيش وفي الدبلوماسية.... الخ، وفي ظل تقدير عربي كبير. هناك كثير من الحقائق تشهد على مساهمتهم الجادة والنافعة في تطور البلاد العربية وفي حل مشاكل سياسية وعسكرية وغير ذلك من المشاكل التي كانت تواجه العرب. ولقد أشاد المؤرخون العرب برجل دولة وقائد عسكري أرمني بارز هو ابن يحيى الأرمني الذي لعب دوراً هاماً في الحروب ضد الجيوش البيزنطية في القرن التاسع. وكان أيضاً حاكماً على أرمينيا التي كانت تشتمل كما أسلفت على أرمينيا وجورجيا وحران وداغستان.
وهناك أيضاً قائد الأسطول البارز الذي ينحدر من أصول أرمنية حسام الدين لؤلؤ، كما اعتبر فسطاط فهرام أحد بناة مدينة القاهرة.

ولقد شغل الأرمن مناصب مرموقة في عهد الدولة الفاطمية في مصر (909-1171). ومن بين هؤلاء بدر الدين الجمالي الأرمني الأصل. كان في بادئ الأمر قائداً لدمشق ثم عين والياً على عكا وقائداً عاماً للبحرية المصرية. استدعاه الخليفة المستنصر إلى القاهرة لإنهاء حالة الفوضى والاضطراب في دولة الخلافة. ويقول المؤرخ العربي ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان"، أنه لما ضعفت قوة المستنصر وحلت بالبلاد حالة من الفوضى، أمر باستدعاء بدر الدين الجمالي من دمشق الذي حضر إلى القاهرة بقواته عام 1074 واستعاد النظام والهدوء في ربوعها. وأصبح بعد ذلك وزيراً للخليفة الفاطمي وأميراً للجيوش وكبير القضاة. ويشير ابن العسير في كتابه "الكامل في التاريخ" إلى أن بدر الجمالي "احتفظ بكل السلطات في يده حتى وفاته" التي حدثت عام 1094. وخلفه ابنه الأفضل الذي كان كأبيه وزيراً وحاكماً حقيقياً للبلاد إلى أن أغتيل في عام 1122.
وفي تقييمه للنتائج السياسية لأعمال بدر الجمالي وابنه الأفضل، يقول المقريزي "يرجع الفضل لبدر الجمالي وابنه الأفضل في اعادة بريق الأمل إلى الخلفاء الفاطميين وعودة الهدوء والاستقرار إلى الدولة المصرية بعد حالة الدمار التي كانت عليها وسوء حالة الناس. ومن المناسب هنا أن نورد رأي المستشرق فيليب حتى الذي يقول "ان حالة الرخاء التي شهدتها البلاد في عهد أول خليفتين في مصر والوزيرين الأرمنيين بدر الجمالي وابنه الأفضل تشبه الرخاء الذي ساد البلاد أبان فترة الفراعنة الاسكندريين والذي انعكس على انتعاش الفنون".
ويجدر بنا أن نتذكر أيضاً فهرام بهلفوني (بهرام الأرمني)، ذلك الأمير الأرمني الذي كان وزيراً للخليفة الحافظ (1130-1149) ومارس سلطات غير محدودة، وكان يلقب بتاج الدولة.

وفي لبنان كان لرجال الدولة الأرمن نفوذ واسع. في عام 1861 وفي أعقاب مذابح عام 1860 وبناء على ما قررته القوى العظمى خاصة فرنسا وانجلترا، وافق السلطان العثماني على منح لبنان الحكم الذاتي. وفي 9 يونيو عام 1861 وقع السلطان العثماني في استانبول "القانون الأساسي للبنان" ومن ثم أصبحت المتصرفية اللبنانية. وطبقاً لهذا القرار يكون منصب رئيس الإقليم – المتصرف – وممثل السلطان مقصوراً على شخص مسيحي كاثوليكي الذي يعينه السلطان بناء على توصية من القوى الأوروبية الكبرى. وكان أول متصرف تم تعيينه في لبنان أرمنياً وهو كارابيت أرتين داوديان والذي يعرف باسم أرتين أو داود باشا. وكان يعتبر حاكماً فعلياً للمتصرفية ونظراً لأنه كان على درجة عالية من التعليم ورجل دولة حكيم فقد فعل الكثير لإجراء مصالحة بين مختلف الطوائف العرقية والدينية في لبنان، وحفزها على التعاون فيما بينها وساعد على تطور الاقتصاد والثقافة في لبنان. وترك كارابيت داوديان سيرة طبية عن شخصه وأعماله.
ظل وضع المتصرفية في لبنان قائماً حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عندما ألغته السلطنة العثمانية في عام 1914. وخلال تلك الفترة كان هناك 8 متصرفين 4 منهم كانوا من الأرمن وآخرهم المتصرف هوفهان كويومجيان Hovhannes Kuyumjian.

في مصر تعاظم دور الأرمن في خدمة الدولة وارتبط ببعض التغيرات الجذرية في هذا البلد. ففي عام 1805 أصبح محمد علي الحاكم الفعلي لمصر وان كان يخضع رسمياً للسلطان العثماني مع استمرار تبعية مصر للامبراطورية العثمانية. كان هدف محمد علي النهائي جعل مصر دولة مستقلة وإنهاء تبعيتها للامبراطورية العثمانية. وقام بعدة إصلاحات في مجالات الاقتصاد والجيش والتعليم والثقافة.. الخ، والتي بفضلها تحولت مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى أقوى ولاية في الامبراطورية العثمانية وقل اعتماد مصر على استانبول. ولقيت سياسة محمد علي الدعم الكامل ليس فقط من المصريين ولكن من الجنسيات الأخرى ومن بينهم الأرمن. كانت سياسة محمد علي تجاه غير المصريين تقوم على مبدأ التسامح وهو ما فتح الباب للأرمن واليونانيين وغيرهم من الجنسيات للقيام بدور فعال في عمل الإصلاحات وتحقيق طموحات محمد علي.
وساعد التجار والسياسيين والمثقفين الأرمن محمد علي كثيراً في تنفيذ برامجه. فعملوا كمستشارين ووزراء في مصر. وقدم الأرمن الأثرياء الدعم المالي لمشروعات محمد علي بما في ذلك حروبه ضد القسطنطينية. وفي عام 1837 أقام الأرمن أول بنك في مصر. ولأن الأرمن حرفيين مهرة فقد فعلوا الكثير جداً لنمو الاقتصاد في مصر. فأنشأوا صناعة الطباعة في مصر، وقاموا بترجمة كثير من الكتب من اللغات الأوروبية ونشرها باللغة العربية. فترجم أرتين شارقيان كتاب الأمير لميكيافللي بأمر شخصي من محمد علي. وكان محمد علي يقدر كثيراً قدرات الأرمن الفكرية وكفاءتهم ومهارتهم ومشاركتهم في مختلف نواحي النشاط في مصر ومنحهم كل ثقته. وهذا ما يفسر تبوأ كثير من الأرمن مناصب عالية في حكومته وخاصة في وزارات (نظارات) الخارجية والتجارة والتعليم والنقل. ووزراء خارجية مصر الأرمن هم بوغوص يوسوفيان وأرتين شكري ونوبار نوباريان الذي فعل الكثير لتقوية استقلال مصر الفعلي.

ولكن أبرز الشخصيات السياسية في مصر خلال فترة السبعينات وحتى التسعينات من القرن التاسع عشر هو نوبار نوباريان باشا الذي عينه عدد من خديوي مصر رئيساً للوزراء عدة مرات. وبفضل جهوده ومواهبه وقدراته الفائقة تمكنت مصر من تحقيق إنجازات ضخمة في مختلف نواحي الشئون الداخلية والسياسة الخارجية. وكان من بين رجال الدولة القلائل الذين أدركوا خطر الامبراطورية البريطانية على مصر والدول العربية الأخرى. وبذل كل ما في وسعه للحيلولة دون احتلال بريطانيا لمصر. ولم يكن خطأه أن فشل في ذلك. لقد كان عصراً مختلفاً تماماً بأخلاقيات وقيم سياسية مختلفة. واستمر التقليد الطبيب باشتراك الأرمن في الحياة السياسية في البلاد العربية المضيفة وتطور في الأزمنة الحديثة.

4- النهضة العربية وموقف الأرمن
ظلت الدول العربية تحت الهيمنة العثمانية طيلة أربعة قرون تقريباً منذ بدء الاحتلال في عام 1516 وحتى 1918.
في عام 1639 وبعد حروب طويلة وقّعت إيران والامبراطورية العثمانية اتفاق في قصر شيرين لتقسيم أرمينيا. فقد ضمت أرمينيا الشرقية إلى فارس بينما ألحقت أرمينيا الغربية بالامبراطورية العثمانية. ومرة أخرى يجد الأرمن والعرب أنفسهم تابعين لدولة واحدة، ولكنها هذه المرة لم تكن دولتهم. ظل طغيان السلاطين العثمانيين سمة أكثر الفترات مأساوية في تاريخ الشعوب العربية والأرمنية والذي أثر سلباً على تطورها السياسي والوطني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

منذ بداية أربعينات القرن التاسع عشر ظهرت بوادر حركة جديدة في الحياة العامة للشعوب غير التركية داخل الامبراطورية العثمانية. وكانت تلك الحركة أكثر قوة وأفضل تنظيماً بين العرب. كانت حركة توعية سياسية وثقافية وحركة ولادة جديدة للشعوب العربية. وكانت تسمى نهضة. كان قادة النهضة العربية يتطلعون إلى الحرية والتخلص من قيود الحكم العثماني ويجاهدون للحفاظ على هويتهم العرقية ولغتهم وثقافتهم وتقاليدهم الوطنية والحيلولة دون تتريك العرب. وكانوا يحلمون بالتغلب على التخلف الذي ران على الدول العربية وتسهيل تحول الدول العربية إلى دول حديثة ذات نظم اقتصادية وتعليمية وثقافية متطورة. لقد كانوا قادة تنوير حقيقيين.
كانت المراكز الرئيسة للنهضة العربية توجد في سوريا ولبنان ومصر. ومن أهم الشخصيات البارزة في حركة النهضة: بطرس البستاني وناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي وأمين شمايل وميخائيل مشاقة وخليل الخوري وسليمان بستاني وفرانسيس فتح اللَّه ويوسف العسير وفارس نمر ونوفل نعمة اللَّه الطرابلسي وغيرهم.

كان لأفكار النهضة العربية تأثير عظيم على الشعوب غير التركية وأولهم الأرمن، لأنهم قاسوا من نفس شرور الواقع السياسي العثماني المتمثل في سياسة السلاطين تجاه جميع الشعوب غير التركية. وقبل الأرمن الذين يعيشون في البلاد العربية مبادئ النهضة كأنها مبادئهم واعتبروها شعاع الأمل الذي يلوح من آخر النفق المظلم ومن ثم أيدوها من قلوبهم.
ولقد شارك العديد من دعاة التنوير الأرمن زعماء النهضة العربية في كفاحهم من أجل الاستقلال وقوبل هذا الموقف بالتقدير من جانب العديد من الكتاب العرب. يقول الكاتب اللبناني الشهير يوسف يزبك "شاركت مجموعة من النبلاء الأرمن في إحياء الحركة الأدبية من جديد والتي كانت قد بدأت عندنا في القرن الماضي". وأشار إلى أن الدكتور Grigor Vardapet كان أحد مؤسسي كلية السوريين البروتستانت والتي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية في بيروت. كما أنه كان أيضاً أحد مؤسسي "جمعية نشر العلوم ورقي الفنون، التي أنشأت في عام 1847. وكان من بين أعضاء تلك الجمعية أرمني آخر هو ميخائيل فرج اللَّه الذي كان يستضيف اجتماعات الجمعية في منزله. ومن الشخصيات الأرمنية التي شاركت في النهضة العربية حنا أبجاريوس وهوفسيب باكوس ورزق اللَّه حسون أو حاسونيان وغيرهم. ولقيت مجهودات رزق اللَّه حاسونيان تقديراً كبيراً من متخصصين من أمثال، I.
Krachkovski Krimski، جرجي زيدان، وفيليب الطرزي واعتبروه مؤسس وسائل الإعلام العربية. وذكر المستشرق الروسي ليف كاتلوف Lev Katlov أن رزق الله حاسونيان كان أول من دعا إلى فكرة استقلال العرب.

ولكن جميع الباحثين في تاريخ العرب والنهضة أجمعوا على أن أهم الشخصيات البارزة في حركة النهضة العربية هو أديب اسحق أو باسمه الأرمني أديب زالماتيان (1884-1856) Adib Zalmatyan. ولد أديب اسحق في دمشق من عائلة أرمنية. ويؤكد يوسف يزبك أنه لو استعرضنا كبار الشخصيات الثقافية التي كانت تعمل تحت لواء النهضة العربية "فإننا لا بد وأن نتذكر الصحفي الفذ والخطيب والكاتب والمترجم أديب اسحق والذي مات وهو دون الثلاثين من عمره. كما شارك في الثورة المصرية الوطنية ضد الاحتلال الانجليزي وذاع صيته في باريس ولندن وفي الشرق كله بفضل مقالاته.
كما لقي الدور الذي لعبه أديب اسحق في الحياة السياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التقدير من الباحث الفلسطيني إميل توما. فهو يعتبره رائد الفكر العربي في القرن التاسع عشر. ويرى "ان رواد الفكر العربي في القرن التاسع عشر، طبقاً لفهمهم لحالة الامبراطورية العثمانية وسعيهم لعمل إصلاحات سياسية وإجتماعية تبنوا اتجاهين: الأول يدافع عن أفكار الوحدة الإسلامية والآخر في اتجاه بلورة عقيدة وطنية خالصة. ويرى إميل توما أن الكواكبي كان يقود الاتجاه الأول وأن الاتجاه الثاني تزعمه الأرمني الشاب أديب اسحق. وقال توما أن "أبرز ممثلي التيار العربي الوطني هو أديب اسحق واعتبره مفكراً ومحارباً من أجل الحرية والمساواة. واهتم اميل توما بملمح هام جداً لنشاط أديب اسحق. فقد لاحظ أن "أديب اسحق كان من أوائل المفكرين العرب الذي بحثوا في مسألة الأمة والوطن وحاول الوصول إلى مفهوم كامل لهما". وأضاف أن أديب اسحق هو "أول كاتب معاصر عين الحدود الجغرافية للعالم العربي".ونحن نعتبر أن هذه الحقائق تكفي تماماً لنقرر أن الأرمن اعتبروا حركة النهضة العربية كأنها قضيتهم وفعلوا كل شيء لنصرتها.

5- المسألة الأرمنية والمذبحة وموقف العرب
اعتبر المؤرخون والمتخصصون في التاريخ والدبلوماسية والعلاقات الدولية وكذلك المثقفون من العرب "المسألة الأرمنية" جزءاً أساسياً من "المسألة الشرقية". وبحثوا المشكلة من هذا المنظور. ومن المعلوم جيداً أن "المسألة" الشرقية ومشكلة "الرجل المريض" أي مستقبل الامبراطورية العثمانية شغلت بال العرب وكل البلاد العربية. ولذا لم يكن بوسع العرب النظر إلى المسألة الأرمنية بلا مبالاة.

في أعقاب مؤتمر برلين في عام 1878 أصبحت المسألة الأرمنية محور الدبلوماسية الدولية. كان جوهر المسألة الأرمنية هو كفاح الأرمن للمحافظة على هويتهم العرقية ورفضهم سياسة التتريك القسرية وحقهم في العيش في وطنهم والحصول على الحكم الذاتي شبيه بنظام المتصرفية الذي طبق في لبنان ووضع حد للمذابح التي ارتكبها الأتراك والأكراد والشركس. وعلى الرغم من وعود النظام العثماني المتكررة لعمل الإصلاحات اللازمة في الولايات الأرمنية، إلا أنه واصل ارتكاب الأعمال الوحشية ضد الأرمن بعد مؤتمر برلين مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ماذا كان موقف العرب والشعوب والقادة السياسيين والدينيين والمثقفين تجاه المسألة الأرمنية؟
انني أقر بكل سرور أن العرب تفهموا المطالب الوطنية للأرمن وتبنوا موقفاً إيجابياً تجلى في تأييدهم لمطالبهم.
في خطاب لنجيب عازوري أحد الشخصيات العربية الوطنية البارزة ومؤسس "جمعية رابطة الوطن العربي" عام 1905، أرسله إلى ميناس شيراز رئيس تحرير صحيفة “L’armenie” الأرمنية والتي كانت تصدر في باريس بالفرنسية قال "أود أن أعرب لك ولزملائك عن شكري للحماس الذي تلقيتم به يقظة الأمة العربية وللمشاعر الطيبة التي أبديتموها تجاه حركتنا الوطنية. كما أتقدم بالشكر أيضاً لرفاقكم الذين أثق في مشاعرهم الطيبة نحونا. ان اقتراح الأرمن الشجاع بمساعدة العرب بكل قوة ضد الدولة التركية قد أثبت أنهم، وقبل الآخرين، يعملون من أجل المصالح المشتركة".

لقد وضع الزعماء العرب نصب أعينهم فكرة توحيد جهود الشعوب المختلفة التي تعيش في الامبراطورية العثمانية. وجاء في نداء أعلنته اللجنة المركزية "لجمعية رابطة الوطن العربي" عام 1906 "بفضل انفصالنا عن تركيا، سيتمكن الأكراد والأرمن والألبان وغيرهم من الأمم من تحقيق حلمهم في الحرية... من الآن سننبذ السلطان وسوف تعلن كل أمة استقلالها".

ومن هذا المنطلق تمثل قرارات المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس عام 1913 اهتماماً كبيراً بقضية الأرمن. ومما له مغزى أن وفداً أرمنياً شارك في أعمال المؤتمر جنباً إلى جنب مع ممثلي حركات التحرير الوطنية من كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق.. الخ. وتم تخصيص البند (8) من قرارات المؤتمر للمسألة الأرمنية. ونص القرار "يصادق المؤتمر ويظهر ميله لمطالب الأرمن العثمانيين القائمة على اللامركزية ويرسل تحياته لهم من خلال وفدهم".

ومن الأمور الهامة جداً الخطاب الذي ألقاه أحد قادة حركة التحرير العربية ورئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي أثناء التصويت على المادة (8) – أعدم الزهراوي في عام 1916 بأمر من جمال باشا – قال "ان حال إخواننا الأرمن كحالنا وهم أشبه الناس بنا يهاجرون كما نهاجر ويفكرون كما نفكر ويطلبون كما نطلب فنحن نرغب في نجاحنا ونجاحهم وإنا وإياهم سواء في المطالبة باللامركزية".

ولا شك ان كل ذلك يعطينا الحق في أن نقرر أنه عشية الحرب العالمية الأولى كان قد تم وضع إطار وأهداف التعاون العربي – الأرمني.

وأدرك حزب تركيا الفتاه وقادته الجزارون "انفار وطلعت وجمال" جيداً الخطر الذي يمثله اتحاد الشعوب غير التركية بما في ذلك العرب والأرمن على الامبراطورية العثمانية. فاستغلوا فرصة اندلاع الحرب العالمية الأولى وقرروا حل المسألة الوطنية عن طريق المجازر. ووجهت أول ضربة للأرمن والعرب.

يقول المؤرخ المصري أمين سعيد في كتابه "ثورات العرب في القرن العشرين" عن هذا الأمر أن "قادة حزب تركيا الفتاة قرروا أن الوقت قد حان لتصفية الحركتين الوطنيتين القويتين وهما حركة القوميين العرب في سوريا والعراق والحجاز والحركة الأرمنية في شمالي الأناضول". وعبر عن نفس الرأي المؤرخون فؤاد حسن حافظ وزين زين ومسعود داغر وغيرهم من الكتاب.

في عام 1915 قام حزب تركيا الفتاة بإبادة جماعية للأرمن الغربيين وهي أول إبادة جماعية في القرن العشرين. والتي قتل خلالها 1,5 مليون أرمني وتم ترحيل مليون آخرين. وكما ذكر الكاتب السوري مروان المدور حاول حزب تركيا الفتاة حل المسألة الأرمنية بإبادة الأرمن. ويمكننا القول بأن مذبحة الأرمن في عام 1915 أصابت العرب بصدمة تجلت في الكتابات التاريخية وأعمال المؤلفين العرب. ومن بين هؤلاء الكاتب السوري فايز الغصين والذي ألف كتاباً بعنوان "المذابح في أرمينيا" والذي نشر في عام 1916 ثم ترجم إلى عدد من اللغات. وهذا الكتاب لم يكن أول كتاب تاريخي عربي فحسب بل واحداً من أوائل الكتب التي أرخت للمذبحة الأرمنية على الإطلاق. وأثناء مأساة الأرمن، كان الغصين في ارزروم ثم أجبر على البقاء ستة شهور في ديار بكر. ونحن ندين فيما يبدو لتلك الحادثة حيث أن فايز الغصين كتب على الورق كما يقول هو نفسه "كل ما رأيت وسمعت" وأصبح مؤلفاً لهذا الكتاب الذي يقدم مصدراًاستثنائياً لدراسة المذبحة الأرمنية. وهو يقول "لقد رأيت وسمعت من مصادر موثوقة كل ما حدث للأرمن".
وأثناء الكارثة التي حلت بالأرمن مد العرب يد المساعدة إلى المنفيون الأرمن. فقد خطط حزب تركيا الفتاة للقيام بالمذبحة على مستويين. أولاً قتل غالبية الأرمن في موطنهم غرب أرمينيا وثانياً ملاحقة الباقين والقضاء عليهم في الصحراء العربية وأماكن تجمعهم وهم في طريقهم إلى المنفى.

كان حزب تركيا الفتاة يعتقد أنه بطرد الأرمن إلى الصحراء والدول العربية فإنهم سيحلون في بيئة عرقية ودينية معادية لهم وان المسلمين العرب سوف يستكملون ما بدأه حزب تركيا الفتاة من إبادة دموية للأرمن. ولكن خاب رجاءهم. فالعرب، على الرغم من وضعهم المعقد مدوا أيديهم إلى الأرمن وساعدوهم سياسياًومادياً ومعنوياً. وعلينا أن نعترف أن هذا الموقف من جانبهم كان ينطوي على مخاطر كثيرة. ومن الملفت للنظر أن رؤساء المنطقة العربية كالقائمقامات وغيرهم من المسؤولين من ذوي الأصول العربية، كانوا في أحيان كثيرة يرفضون تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من السلطات التركية بتصفية الأرمن المبعدين جسدياً.

"لقد حاول المسؤولون العرب في الحكومة العثمانية قدر الامكان تخفيف أوامر استانبول الوحشية، بل ان بعضهم أثبت شجاعة نادرة برفضهم تنفيذ تلك الأوامر". وإليكم بعض الأمثلة:

استقبل علي سوفاد بك حاكم دير الزور آلاف اللاجئين الأرمن فأمنهم وحافظ عليهم وأكرمهم. وهو لم يكتف بعدم قتل الأرمن الذين يمرون بمنطقته (دير الزور كانت واحدة من النقاط التي تمر عليها قوافل المهجرين الأرمن) ولكنه أقام مساكن لحوالي 1000 يتيم أرمني. هذا العربي المخلص طرد من منصبه.

وعربي كريم وعطوف آخر هو عبدالله ماسا الذي بنى داراً للأيتام الأرمن في حماة بسوريا وأمدهم بالغذاء والملبس. كما تم شنق قائمقام كل من بشيري وليدجان وولاية ديار بكر لرفضهم تنفيذ أوامر الحكومة التركية بإبادة اللاجئين الأرمن.

ومن غير الممكن ألا نتحدث عن رؤساء العشائر في الموصل. فعندما تسلم حاكم الموصل أوامر حزب تركيا الفتاة بإبادة جميع الأرمن في الموصل أو في القوافل التي تمر بها، رفض إطاعة الأمر وجمع الأعيان لمناقشة المسألة وقرر المجلس بالإجماع رفض تنفيذ الأوامر معلناً أن "ضميرهم لا يسمح بأن يلطخوا أياديهم بدم الأرمن".
وجدير بالذكر استقبال النساء العرب الحار للأطفال الأرمن المشردين الذين كانوا في حاجة للغذاء والماء والرعاية. واعتنى الكثير من النساء العرب بالأطفال الأرمن وكوفئوا بمناداتهم بلقب "الأم".
وخلال تلك السنين المروعة تجلت مشاعر العرب الانسانية تجاه الأرمن في المساعدة التي لا تقدر بثمن التي قدمها المصريون حكومة وشعباً لأرمن جبل موسى. وقد أشار كل الكتاب العرب تقريباً إلى أعمال الدفاع البطولي عن النفس لأرمن جبل موسى. وصف المؤرخ المصري محمد رفعت الإمام تلك الأعمال بالبطولية، مؤكداً أن تصميمهم على عدم السماح للأتراك بذبحهم. وأشاد بمهارتهم في اتخاذ المواقع الاستراتيجية الصحيحة.

ونحن ندين بالفضل للحكومة والشعب المصري لاستقبالهم أرمن جبل موسى. وقد كافح الأرمن في منطقة جبل موسى ببطولة طيلة 40 يوماً ضد الجيش النظامي التركي وتركوا قراهم إلى أن تم نقلهم على سفن فرنسية إلى مدينة بورسعيد. وقامت الحكومة المصرية باسكانهم في معسكر أقيم خصيصاً للأرمن وأمدتهم بالمؤن اللازمة. والجدير بالذكر أن حاكم مصر في ذلك الوقت السلطان حسين كامل تحمل جزءاً كبيراً من تكاليف إعاشة الناجين الأرمن من جبل موسى.
ولتحديد الموقف العربي من المذبحة الأرمنية لا بد أن ننوه بالدور العظيم الذي لعبه حاكم الحجاز شريف مكة الحسين بن علي الهاشمي الذي كان أكبر شخصية في العالم العربي والإسلامي. ففيما بين السنوات 1915-1917 أدان عدة مرات وحشية تركيا الفتاة وقادتها أنفار وطلعت وجمال. وفي خطاب أرسله نيابة عن السلطة التنفيذية للحجاز أمر الشريف حسين كل من الأمير فيصل والأمير عبد العزيز الجربه تقديم كافة أنواع الدعم للأرمن والدفاع عنهم "كما تدافعون عن أنفسكم وعن أبنائكم وممتلكاتكم لأن الأرمن ذميون" أي في حماية المسلمين". وفي خطاب آخر أكد الشريف حسين أن القادة الأتراك "انفصلوا عن العالم الإسلامي وعن القرآن والسنة. ان جريمتهم ليس لها علاقة بالإسلام وفضائله".

لقد ذكرنا أن تركيا الفتاة كانت لديها مخططات لتصفية العرب كذلك. وحاولوا خلال الحرب تنفيذ ذلك المخطط المريع. في عام 1915-1916 وبناء على أوامر من جمال باشا تم إعدام 32 من أبرز زعماء حركة الوطنية العربية في بورجي ودمشق وبيروت وهم عبد الحميد الزهراوي وعبد الكريم الخليلي وشفيق العزم وصالح حيدر وعلي النشاشيبي وسالم الجزائري وغيرهم. وتم ترحيل العديد من العائلات المشهورة بنسائها وأطفالها من بلادهم إلى وسط الأناضول.

وأود أن أقدم حقيقة أخرى من "مذكرات" نعيم بك" أظن أنها هامة. كان نعيم رئيس سكرتارية اللجنة الرئيسية لشؤون اللاجئين في حلب والتي كان يرأسها عبد الأحد نوري بك. يقول نعيم بك في المذكرات" ما أن قلت لنعيم بك: "يا بك دعنا نجعل منفى الأرمن أقل احكاما وإلا فإن موتهم سيهدد كل أرض ما بين النهرين. لن يبقى في تلك المناطق سوى الشياطين. وقد أرسل قائمقام رأس العين أخباراً مفزعة. ضحك نوري بك وقال: "يا بني اننا سنتمكن بهذه الطريقة من التخلص بسرعة من عنصرين خطرين. سيموت الأرمن والعرب معاً. أليس هذا شيئاً سيئاً؟ ومع ذلك سنفتح الطريق أمام الطورانية".

كانت سياسة التتريك والطورانية موجهة ليس ضد الأرمن والعرب فحسب بل ضد روسيا وفارس والشعوب الأخرى غير التركية في المنطقة.

ان كتاباً عرباً معاصرين مثل فؤاد حسن حافظ ومروان المدور وصالح زهر الدين وجهاد صالح وسمير أربش وموسى برنس وأسد داغر وغيرهم كثيرون، أبدوا، ومازالوا يبدون، اهتماماً كبيراً بالمسائل المتعلقة بالمذبحة الأرمنية. ويمكننا أن نستخلص من آرائهم أنهم جميعاً يوافقون على أنه في عام 1915 ارتكبت الحكومة التركية مذبحة ضد الأرمن والتي يصنفونها "الصفحة السوداء للقرن العشرين" وأنها جريمة ارتكبت ليس في حق الأرمن وحدهم بل في حق الإنسانية جمعاء. وقد ابتكر موسى برنس كلمة جديدة هي "Armenocide" مؤكداً "أن إبادة الأرمن هي أكثر جرائم الإبادات إبادة، وأنها مذبحة لم يتم معاقبة مرتكبيها والتي ليس لها نورمبرج بعد".

ومن المعروف أن المدبرين الرئيسيين لإبادة الأرمن – طلعت وجمال وأمير سيد حليم وشاكر بهاء الدين وغيرهم – اغتيلوا على يد منتقمين من الأرمن في برلين وروما وتفليس. ويعتبر أسد داغر وسمير بشير وموسى برنس وفؤاد حسن حافظ وغيرهم من الكتاب العرب أنهم فدائيين وأن قتلهم لمدبري المذابح ما هو إلا عقاب عادل. كما يرى هؤلاء المؤرخون خاصة أسد داغر وسمير أربش وفؤاد حسن حافظ أن هؤلاء الأرمن الفدائيين أبطال انتقموا ليس فقط للأرمن بل للضحايا العرب أيضاً. "كان هذا" يقول المؤرخ المصري فؤاد حسن حافظ" عقاب عادل ليس من أجل المذبحة الأرمنية عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى، بل أيضاً من أجل قتل قادة الثورة العربية الذين تم شنقهم في الشام (سوريا) والولايات المجاورة في عام 1916 بواسطة قائد الجيش العثماني الرابع كمال باشا" وذكر نفس الرأي أسد داغر الذي قال "الأبطال الأرمن اغتالوا الأدميرال كمال باشا في مدينة تفليس انتقاماً لمقتل 1.5 مليون أرمني والضحاياالعرب.

ولم ينس الأرمن الموقف النبيل للعرب تجاه اللاجئين الأرمن أثناء مأساة الأرمن الكبرى. في يوم 9 مايو 1919 اجتمع في قاعة دار البلدية بدمشق الأمير فيصل (ابن حاكم الحجاز الشريف حسين بن علي وأحد قادة الثورة العربية) مع شخصيات عامة من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وحضر الاجتماع في تلك الجلسة التاريخية الزعيم الديني للاجئين الأرمن الذين استقروا في سوريا والمناطق العربية الأخرى الذي أعرب في خطاب ألقاه في الاجتماع عن التأييد الكامل للعرب في حركتهم التحريرية لتحقيق الاستقلال لأوطانهم كما قدم الشكر للعرب نيابة عن جميع الأرمن على موقفهم النبيل من اللاجئين الأرمن. وقد قوبل الزعيم الديني للأرمن بعاصفة من التصفيق عندما قال "ان اسم العرب سيكتب بحروف من ذهب في تاريخ الأرمن" ومازال رأي الأرمن كما هو ولم يتغير.

وأخيراً وليس آخراً، الشكر كل الشكر للموقف العربي النبيل تجاه المذبحة الأرمنية والمساعدة التي قدموها للاجئين الأرمن والتي أنقذت مئات الآلاف من الأرمن والذين أصبحوا فيما بعد الخلفية التي خرج منها أرمن الشتات المعاصرون والجاليات الأرمنية في مختلف دول العالم بما في ذلك الدول العربية – لبنان وسوريا ومصر والعراق والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت.. الخ. وهم يلعبون دوراً في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في الدول العربية المضيفة من ناحية ومن ناحية أخرى يقومون بدور الجسر بين الدول العربية وأرمينيا.

مرحلة جديدة من العلاقات العربية-الأرمنية
فتحت صفحة جديدة في العلاقات الأرمنية-العربية بعد حدثين لهما أهمية تاريخية. في السبعينات من القرن الماضي اكتمل استقلال جميع الدول العربية. تخلص العرب من الهيمنة الاستعمارية وظهروا في المشهد السياسي كدول مستقلة ذات سيادة، وهو الأمر الذي كان له أهمية كبرى في العالم.

في عام 1991 وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أصبحت أرمينيا أيضاً دولة مستقلة ذات سيادة. وبالتالي أتيحت فرص جديدة للعلاقات العربية-الأرمنية بين الدول في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
ومنذ ديسمبر 1991 اعترفت الدول العربية الواحدة تلو الأخرى باستقلال أرمينيا. وكانت أول دولة عربية تعترف باستقلال أرمينيا هي تونس في 26 ديسمبر 1991. واعترفت مصر والجزائر يوم 27 ديسمبر 1991. ثم الأردن وسلطنة عمان وسوريا (28 ديسمبر 1991) بينما اعترفت لبنان والمغرب في 30 ديسمبر 1991. واستمرت اعترافات الدول العربية باستقلال أرمينيا تتوالى حتى اكتملت في العام التالي، حيث اعترفت كل من العراق والكويت ودولة الامارات العربية المتحدة والبحرين وقطر واليمن وليبيا والسودان.. الخ.

وتبع الاعتراف باستقلال أرمينيا إقامة علاقات دبلوماسية. وكانت أول دولة عربية تقيم علاقات دبلوماسية مع أرمينيا هي سوريا. فقد اتفقت أرمينيا وسوريا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما في 5 مارس 1992. وفي 9 مارس 1992 أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين أرمينيا ومصر، ثم بعد ذلك مع لبنان والأردن والعراق والسودان وقطر ودولة الامارات العربية المتحدة وليبيا وتونس والمملكة العربية السعودية والدول الأخرى.

وافتتحت مصر وسوريا ولبنان والعراق سفارات لها في يريفان. وافتتحت أرمينيا سفارات لها في القاهرة ودمشق وبيروت وأبو ظبي وبغداد.
وبهذه الإجراءت وصلت العلاقات العربية-الأرمنية إلى أعلى مستوى من وجهة نظر القانون الدولي.
ولقد قوي اعتراف الدول العربية باستقلال أرمينيا وإقامة علاقات دبلوماسية معها مكانة أرمينيا الدولية وسهل عليها أن تصبح جزءاً من النظام الاستراتيجي الاقليمي للشرق الأوسط.

ويمكن وصف العلاقات الأرمنية-العربية في الوقت الحاضر بأنها ودية وحميمة. فلا توجد عقبات تاريخية أو سياسية أو إقليمية أو وطنية يمكن أن تفصل بين الجانبين. بل على العكس نرى أن الارث التاريخي يساعد على الصداقة الأرمنية-العربية. والعالم العربي مجال واسع للنشاط السياسي والاقتصادي لأرمينيا. وأرمينيا تشارك أكثر فأكثر في النظام السياسي والاقتصادي والتجاري والمالي والثقافي لمنطقة الشرق الأوسط. الأمر الذي يتيح لأرمينيا إمكانيات ضخمة في مجال التعاون السياسي والاقتصادي وبالطبع لتقوية وضعها في المنطقة.

وكما أن العلاقات الأرمنية-العربية الودية آتت ثمارها كما ذكرنا آنفاً، كذلك فعل وجود الجاليات الأرمنية في العديد من الدول العربية خاصة لبنان وسوريا ومصر والامارات العربية المتحدة والكويت والأردن وغير ذلك من الدول.

لقد قامت علاقات جيدة جداً على مستوى عال بين أرمينيا والدولة العربية القائدة – مصر، والتي شملت عملياً كافة مجالات السياسة والاقتصاد والتجارة والثقافة وقطاع الأعمال والعلوم وغيرها وأيضاً تبادل الزيارات الرسمية وغير ذلك من الوفود. وكانت الزيارة التي قام بها ليفون تير-بتروسيان أول رئيس لجمهوريةأرمينيا لمصر عام 1992 ومباحثاته مع رئيس جمهورية مصر محمد حسني مبارك ذات فائدة. وتم خلال الزيارة التوقيع على اتفاق للتعاون الاقتصادي والعلمي والذي يمضي بنجاح.
وتم إنشاء لجنة أرمنية-مصرية مشتركة ولي الشرف أن أكون أحد أعضاء الجانب الأرمني في اللجنة. وقد عقدت عدة اجتماعات بين الأرمن ونظرائهم المصريين كما تم تبادل الزيارات بين الوزراء في البلدين. وتشارك أرمينيا في معرض القاهرة الدولي. وأقيم مركز أرمني-مصري لترويج الأعمال في يريفان.

وتساعد مصر أرمينيا في إعداد الكوادر الدبلوماسية.

كما نشطت العلاقات الأرمنية-المصرية نتيجة للزيارة الرسمية التي قام بها رئيس جمهورية أرمينيا روبرت كوشاريان لمصر في ابريل 2007. وعقب المباحثات التي جرت بينهما أعرب رئيسا البلدين عن رضائهما التام عن مستوى العلاقات الودية المصرية-الأرمنية ومستوى الاتصالات العالي بين البلدين ووضعاالخطوط العريضة للعمل على تطوير العلاقات بين البلدين في مجالات الاقتصاد والتجارة والعلوم والتعليم.. الخ. كما أكدا على ضرورة تطوير الشراكة بينهما في مختلف المجالات.

كما اجتمع رئيس أرمينيا خلال الزيارة مع المندوبين الدائمين للدول العربية لدى الجامعة العربية وبحث معهم العقبات التي تعترض العلاقات العربية-الأرمنية.
تقوم العلاقات السورية-الأرمنية على الصداقة والتعاون. وبالإضافة إلى وجود سفارة سورية في يريفان وسفارة أرمنية في دمشق، افتتحت أرمينيا قنصلية في حلب لا تخدم السكان المحليين فقط بل أيضاً الأرمن والعرب من الأردن والعراق وغيرهما من الدول.
وأول وثيقة هامة تبرم بين البلدين كانت حول التشاور بين وزارتي الخارجية في سوريا وأرمينيا وتم التوقيع عليها في 30 مارس 1992 في يريفان ونصت على أن تقوم وزارتا الخارجية في الدولتين بتسهيل تطوير العلاقات بينهما بما يخدم مصالحهما الوطنية.

وقد لعبت الزيارة التي قام بها رئيس جمهورية أرمينيا ليفون تير-بتروسيان لسوريا في ابريل 1992 بناء على دعوة من الرئيس السوري حافظ الأسد ومباحثاتهما معاً، دوراً إضافياً في تطوير العلاقات الأرمنية-السورية. وأكدت الزيارة مرة أخرى الصفة الودية للعلاقات الأرمنية-السورية. وأعرب حافظ الأسد عن رضاه عن طبيعة العلاقات بين الدولتين. كما نوه بالدور الإيجابي للجالية الأرمنية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في سوريا.

والعلاقات بين لبنان وأرمينيا نشطة. في عام 1994 افتتحت السفارة الأرمنية ببيروت وفي عام 1997 افتتحت السفارة اللبنانية في يريفان. ولبنان هي الدولة العربية الوحيدة التي اعترفت بالمذبحة التي ارتكبت ضد الأرمن في عام 1915. ويجدر بنا أن نذكر الاتصالات التي تتم بين قادة الدولتين. خلال زيارة رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري لأرمينيا في مايو 1988 تم التوقيع على "معاهدة الصداقة والتعاون بين أرمينيا ولبنان". ومما أكد على عمق الصداقة بين البلدين الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الأرمني روبرت كوتشاريان للبنان في فبراير عام 2000 ثم في عام 2004 وكذلك زيارة الرئيس اللبناني إميل لحود لأرمينيا في مايو 2001. وقد نجحت تلك الزيارات والاتفاقيات بين البلدين في رفع مستوى العلاقات البينية بين الدولتين. ولا يمكن أن نغفل الدور الذي لعبته الجالية الأرمنية في لبنان في تقوية العلاقات اللبنانية-الأرمنية الوطيدة. وتقوم الجالية الأرمنية بدور هام في لبنان. ويكفي أن
نقول أن الأرمن يحتلون 6 مقاعد في البرلمان اللبناني. كما يحصل الأرمن على حقيبة أو حقيبتين في أي تشكيل وزاري.
ويمكن وصف العلاقات بين أرمينيا وباقي الدول العربية بأنها ودية وقابلة للنمو والتطور.

وبعد تحقيق الاستقلال أجرت أرمينيا اتصالات مع جامعة الدول العربية. ويقوم كبار المسؤولين الأرمن خلال زياراتهم إلى مصر بعقد اجتماعات مع المسؤولين في الجامعة العربية المشاكل السياسية في منطقة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية وقضية الأرمن في منطقتنا بالإضافة إلى مشكلة كاراباخ. ومن المهم هنا أن نذكر أن قيادة الجامعة العربية تتفهم بوضوح مشكلة كاراباخ والقبول بأن "هناك تفهم واضح لدى الدول الأعضاء بالجامعة بشأن الطبيعة غير الدينية لمشكلة ناجورنو كاراباخ" وأنها "نزاع سياسي وطني"ويمكن للدول العربية القيام بدور، وهم يقومون بالفعل، في توفير الأمن والاستقرار بمنطقة جنوب القوقاز.
ان مشاكل الأمن عنصر جوهري بل حاسم بالنسبة لأي دولة بصرف النظر عن كونها دولة صغيرة أو كبيرة، ضعيفة أو قوية. أن الأمر يتعلق في نهاية المطاف ببقاء أي دولة وخلق ظروف سياسية وجغرافية سياسية وإقتصادية وغير ذلك من الظروف اللازمة لبقائها ككيان طبيعي ونموها. ان المسألة تتعلق بالمكانة التي ينبغي للدولة أن تتبوأها في المجتمع الدولي وفي مجال العلاقات الدولية خاصة في هذا الوقت الذي بدأ فيه نظام العولمة.

ان مشكلة الأمن والاستقرار هي التي تواجه دول القوقاز الجنوبية الثلاث: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا. ولكن وكما هو معروف فإن دول القوقاز الجنوبية لا تعيش في فراغ، بل تعيش داخل النظم الاقليمية والجيوبولوتيكية الدولية الحالية والتي تؤثر بشدة على تشكيل المناخ السياسي والمسائل الأمنية بالمنطقة.
في رأينا ان منطقة جنوب القوقاز تحط بها ثلاثة أحزمة أمن ومن المستحيل تكوين فكرة واقعية عن آليات لتحقيق الأمن والمحافظة عليه وتقويته دون الأخذ في الاعتبار وجود ثلاثة أحزمة أمن وتأثيرها على عملية الأمن.
حزام الأمن الأول لجنوب القوقاز وتشمل ثلاث دول متجاورة هي روسيا وتركيا وإيران.
المنطقة الثانية تقع خلف المنطقة الأولى وتشمل خمس دول بآسيا الوسطى وهي: كازاخستان وقيرغيستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان ودول البلقان – اليونان وبلغاريا ورومانيا ثم مولدوفيا وأوكرانيا ثم الدول العربية. ونعني بالدول العربية مصر أولاً وقبل كل شيء ثم سوريا ولبنان والعراق والأردن وبعض الدول العربية الأخرى.
والحزام الثالث يشمل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.

ومن الواضح أن الدور الذي تلعبه دول الحزام الثاني ليس مؤثراً كدور دول الحزام الأول والثالث ونعني بذلك روسيا والولايات المتحدة. ولكننا على يقين من أنه من الخطأ القاتل تجاهل أهمية الدول العربية والدول الأخرى التي تقع ضمن الحزام الثالث. فالدول العربية تمتلك إمكانات اقتصادية وسياسية ضخمة ويحتلون موقعاً استراتيجياً هاماً وتقوم بدور هام في العالم. ونرى أن ثقلها السياسي سيتعاظم بقوة وسيكون المشرق العربي المركز العالمي المحتمل في القرن الواحد والعشرين. ولذلك يمكن لهذه الدول لعب دور هام في شؤون منطقة جنوب القوقاز.

ان إدراك أرمينيا لهذه الاتجاهات أمر ضروري بالنسبة لأرمينيا. ومن المأمول أن تتوصل أرمينيا إلى وضع خطط مع الدول العربية الصديقة للمحافظة على أمنها الوطني. وكما ذكرنا آنفاً فإنه لا يوجد شيء يفرق بين أرمينيا والدول العربية. بل على النقيض من ذلك تجمعهم المصالح المشتركة بما في ذلك المصالح الاستراتيجية. وتعتبر العلاقات العربية-الأرمنية عاملاً أساسياً مؤكداً في النظامين الاقليمي والعالمي وتمتلك مستقبلاً باهراً.

حول المؤلف

ولد نيكولاي هوفهانيسيان في أرمينيا عام 1930
تخرج من كلية العلاقات الدولية بجامعة يريفان الحكومية عام 1953
حصل على درجة الدكتوراه في العلوم التاريخية عام 1968 ثم على درجة الأستاذية في عام 1972
عضو مراسل للأكاديمية الوطنية للعلوم بأرمينيا وهو عالم أرمينيا المبجل

المجالات الرئيسية لأبحاثه العلمية:
تاريخ الدول العربية والشرق أوسطية – العلاقات الاقليمية والدولية في الشرق الأوسط – العلاقات العربية البينية – حركات التحرير الوطنية في العالم العربي – الأقليات الوطنية في المشرق العربي – العلاقات العربية-الأرمنية – المذبحة وإبادة الشعوب – الإسلام السياسي – الصراعات العرقيةالسياسية... الخ.
قام بتأليف أكثر من 400 عمل علمي، منها 55 كتاب في موضوع واحد نشرت في عدة دول.

مؤسس ورئيس قسم الدول العربية في معهد الدراسات الشرقية (1961-2000)
مدير معهد الدراسات الشرقية (1995-2006) وهو الآن مستشار المعهد.
مؤسس ومدير مركز حل المنازعات بأرمينيا ورئيس الجمعية الأرمنية الأطلسيةبناء على دعوة من وزارة التعليم والعلوم السورية في عام 1985 قام بأعمال علمية في جامعتي دمشق وحلب وفي معهد التراث العلمي العربي في حلب بناء على دعوة من الأكاديمية البريطانية في جامعات لندن وأكسفورد والمعهد الملكي للشؤون الدولية (لندن).
عمل في عام 1993-1994 كأستاذ زائر بدعوة من مؤسسة فولبرايت في جامعة جورج واشنطن وفي جامعة ميريلاند عام 1995.
حاضر في العديد من الجامعات والمعاهد والمراكز العلمية في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وكندا والمجر ولبنان وسوريا ومصر والعراق والكويت ودولة الامارات العربية المتحدة وليبيا والهند والصين واليابان.. الخ.
عضو في أكاديمية نيويورك للعلوم وأكاديمية "أرارات" الدولية للعلوم (باريس) والجمعية الدولية للعلوم حول مشاكل الأمن القومي (موسكو) والأكاديمية الدولية للطبيعة والمجتمع (ألمانيا) والأكاديمية الأمريكية لمشاكل الأمن القومي والجمعية العلمية بسوريا وغير ذلك.

بعض مؤلفاته:

إقامة الجمهورية السورية المستقلة – موسكو
صراع التحرر الوطني – بيروت – 1974 باللغة العربية
حركة التحرير الوطنية في العراق (1917-1958) – يريفان – 1975
سياسة القوى الاستعمارية في المشرق العربي (1939-1945) – يريفان 1980
علاقات الجمهورية العراقية بدول المشرق العربي (1968-1975) – يريفان 1985
الاتصالات الودية الأرمنية – العربية – حلب – 1968
غرائب التطور في الدول العربية ونتائجها (1950-1980) – شتوتغارت 1992
حرب الخليج والمسألة الكردية – لندن 1994
سياسة أرمينيا الخارجية – يريفان 1998 (بالانجليزية)
حول خيارات حل مشكلة كاراباخ – مجلة ماركوبولو – فينيسيا 1998
إيران – عصر آيات الله – يريفان 2004
الصراعات العرقية – السياسية في دول عبر القوقاز: الجذور والحلول (مؤلف مشارك) جامعة ميريلاند – 1997
التأريخ العربي عن المذبحة الأرمنية 2005 (باللغتين الأرمنية والانجليزية)
المذبحة الأرمنية – إبادة الأرمن (بالانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والتركية والمجرية) – 2002 – 2007
تاريخ الدول العربية الأجزاء من 1-4 من القرن السابع 2005-2007

جديد

تحميل الكتاب - تحميل الخرائط
أحدث المواضيع
بــيـــان عموم الأرمن في الذكرى المئوية للإبادة الجماعية الأرمنية
إصدارات - كتب

ذاكرة أرمنية – صور من مخيم لاجئي حلب 1922-1936


نحو قرار عادل ومنصف حول نزاع كاراباخ الجبلية

النشرة