دور الانتشار الارمني في العالم |
النائب هاكوب بقرادوني * قبل الحديث عن موضوع الانتشار الأرمني في العالم لا بد ان نشير إلى ان هذا الانتشار الناتج عن هجرة الأرمن من وطنهم الام أرمينيا يعود إلى القرون الماضية وإلى أسباب مختلفة أهمها: غياب الدولة المستقلة في أوقات مختلفة. فكل هذه العوامل كانت تؤدي في ظروف وأوقات مختلفة إلى هجرة أعداد كبيرة من الأرمن واختيار بلدان مجاورة أو بعيدة كموطن جديد وذلك أما مجبرين أو بالإرادة الحرة. فأينما كان يصل الأرمني المهجر أو المهاجر كان يبدأ بتنظيم الحياة الشخصية وحياة الجماعة ايماناً منه في ضرورة الحفاظ على هويته الأرمنية وعلى تقاليده الخاصة. وفي معظم الأوقات كان ينجح في نشاطه هذا، الا أن مرور الزمن وبروز الأجيال الجديدة في مناطق بعيدة عن أرمينيا كانا يؤديان إلى فقدان تدريجي لهذا التنظيم ولهذه الهوية. فالجاليات الأرمنية في الهند وبولونيا وهنغاريا والقرم مثلاً كانت من أبرز الجاليات ولكنها أصبحت اليوم من التاريخ وذلك للأسباب التي ذكرناها سابقاً . الا ان الحديث عن الانتشار أو الشتات الأرمني في الوقت الحاضر يجرنا إلى الانطلاق من واقع تاريخي مهم لم يفتح فقط صفحة جديدة في تاريخ الشعب الأرمني بل غيّر مجرى هذا التاريخ بشكل أساسي ومصيري. وهذا الواقع هو جريمة الابادة التي نظمتها ونفذتها الحكومة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى وأدت إلى النتائج التالية: الانخفاض الهائل في تعداد الشعب الأرمني وما يترتب على ذلك من تأثيرات على النمو المادي والمعنوي. فالنتيجة الأخيرة التي ذكرتها، الا وهي التهجير والتشريد هي التي أدت إلى رسم الحدود الجغرافية الجديدة للوجود الأرمني في مختلف أنحاء العالم. فالمحطة الأولى للتهجير كانت الصحارى السورية ومدن دير الزور وحلب ودمشق وبعد ذلك توزع المهجرون على فلسطين ولبنان والعراق ومصر مشكلين بذلك مجتمعاً شرق أوسطياً بالاضافة إلى الجالية الأرمنيةالقديمة في إيران. ومع مرور الزمن ولأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وظرفية (عائلية) توجهت اعداد غير ضئيلة في هذه البلدان إلى دول جديدة كالولايات المتحدة الأميركية وكندا وفرنسا واستراليا. والجدير بالذكر هنا ان أفواج اللاجئين الأرمن الذين أخذوا الدول العربية ملجأً لهم وجدوا في السنوات الأولى في هذه الدول محطة مؤقتة تساعدهم على العودة إلى الوطن الام. فهذه النزعة أو الأصل هو أمل كل مهجر خارج بيته يعتقد بأنه سيرجع اليه في مدة وجيزة. إلا ان الظروف السياسية والتطورات المتتالية في تركيا وتحالفات الدول الأوروبية أو خلافاتهم ومصالح وعلاقات الولايات المتحدةالأميركية والاتحاد السوفياتي آنذاك لم تساعد على تحقيق أماني الشعب الأرمني وخاصة أماني المهجرين في العودة إلى بيوتهم. فما ان تمَّ التوقيع على معاهدة لوزان في 24 تموز 1923 دون ذكر أي بند عن الأرمن وحصر القضية الأرمنية وحقوق الشعب الأرمني في بند يتعلق بوعد تركي للحفاظ على الأقليات دون ذكر حتى اسم هذه الأقليات، حتى اقتنع الأرمن بأن دول الشرق الاوسط وخاصة سوريا ولبنان ليست محطة بل وطن جديد يجب الاقتناع بضرورة اعطاء وجودهم في هذه الدول الطابع الدائم. فرغم الثقل البشري للجاليات الأرمنية في الشرق الأوسط، شكلت مع مرور الزمن جاليات جديدة أو قديمة جديدة في مختلف أنحاء العالم بدءاً من قبرص ودول الخليج، فاليونان ودول أوروبا الغربية إلا ان في هذا الانتشار وهذا الاختلاف في تقاليد وعادات الدول التي انتسب اليها الأرمن لا بد ان نشير إلى ان الدياسبورا الأرمنية قطعت ثلاث مراحل مهمة من عمرها من العشرينات حتى يومنا هذا. المرحلة الأولى: فالأرمني في الدرجة الأولى ناضل من أجل الحفاظ على الذات ومن أجل الحفاظ على هويته الأرمنية وذلك من منطلق بسيط ألا وهو كيف يمكننا النضال من أجل استعادة الأراضي المحتلة وتفادي حال التشرذم، وخطر الموت يداهم الواقع الأرمني. تمّ البدء بتنظيم الحالة الأرمنية داخل المخيمات في الشرق الأوسط. وأول ما قام به الأرمني هو بناء المدرسة، فالكنيسة فالنادي الثقافي والرياضي والحزبي. المرحلة الثانية: والتربوية والثقافية يصب في خانة تحريك القضية الأرمنية. فما ان حلت الذكرى الخمسين للمجازر الأرمنية حتى تبلور هذا المفهوم في اطاره السياسي وفتحت المرحلة الثانية التي هي في الحقيقة مرحلة تسييس الشتات الأرمني. المرحلة الثالثة: بعد تحديد مفهوم الانتشار أو الشتات الأرمني وبعد المضي في التحولات السيكولوجية للدياسبورا الأرمنية لا بد لنا ان نقف أمام بعض الأمثلة من هذا الشتات. ولأن الحديث عن كل الجاليات الأرمنية في كل أنحاء العالم أمر مستحيل اخترنا ثلاث دول تمثل حضارات مختلفة. سوريا في الشرق الأوسط وفرنسا في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. سوريا: فرنسا: وحسب احصاء الكنيسة الأرمنية في فرنسا كان 4000 أرمني عام 1914 منهم 1500 في باريس وكانوا يشكلون الركيزة الأساسية للانفتاح الأرمني على أوروبا. الا ان المجازر الأرمنية والتطورات السياسية بعد ذلك في الشرق الاوسط ومعاهدة لوزان وسياسة فرنسا تجاه سوريا ولبنان أدت إلى زيادة عدد الأرمن في فرنسا إلى 60،000 عام 1924 موزعة بين مارسيليا وليون وباريس . فبدأت هذه المجموعات بتنظيم أحوالها. فتم نشر 87 مطبوعة ما بين 1919 – 1939 ومئات الكتب. وتم تنظيم الجمعيات الثقافية وفروع الأحزاب الأرمنية وحلقات أدبية واجتماعية مختلفة. واليوم هناك حوالي 360،000 أرمني في فرنسا والأكثرية الساحقة منهم مجنسين ويشاركون في الحياة اليومية الفرنسية سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية. وتختلف الجالية الأرمنية في فرنسا عن الوجود الأرمني في الشرق الأوسط. هناك، تراجعت اللغة الأرمنية أمام اللغة الفرنسية ولم يتمكن الأرمن في فرنسا من الحفاظ على المدرسة الأرمنية وذلك لأسباب مادية وجغرافية. واليوم توجد مدرسة واحدة في مارسيليا ومدرسة واخرى في باقي أنحاء فرنسا. الا ان الجو الفرنسي الحر وامكانيتها السياسية وتراثها في الحرية وحقوق الإنسان أعطت للأرمن في فرنسا مجالاً أوسع في النضال السياسي. ولا بد لنا أن نشير بأن أسماء كثيرة لشخصيات كبيرة ساهمت ولا تزال في الحياة الفرنسية بدءاً من Alain Manoukian في صناعة الألبسة إلى Kelian في صناعة الأحذية وHenry Troyat في الأدب وCharles Aznavour وGeorges Garvarentz في الموسيقى والغناء وPatrick Devedjian في السياسة وDaniel Filippechi في الاعلام وSerge Tchuruk، Edouard Sakez وAlain Miklli في مجال الصناعة والتجارة، وأخيراً Alain Prost في الرياضية. وأخيراً لا آخراً Edouard Baladur رئيس الوزراء الفرنسي فهو من أصل أرمني من أزمير. الولايات المتحدة الأميركية: وبعد مجازر 1894 – 1896 أيام السلطان عبد الحميد وصل عدد الأرمن في أميركا إلى 25،000 أرمني إلا ان العدد الأكبر من الأرمن وصل أثناء الحرب العالمية الأولى. فإحصاءات 1920 تبين عن وجود مئة ألف أرمني على الاراضي الأميركية . ارتفع هذا العدد إلى 215،00 عام 1945 ف 450،000 عام 1972 فحوالي مليون أرمني اليوم ، والأكثرية الساحقة منهم في كاليفورنيا وخاصة في لوس انجلوس وبوسطن، نيويورك، نيو جيرسي سان فرنسيسكو وفيلاديلفيا. واشتهر الأرمن في بادئ الأمر بالزراعة وخاصة زراعة الأشجار المثمرة والكروم وبعد ذلك، مع تطور الحياة في أميركا لجأ الأرمن إلى مجالات أخرى في التكنولوجيا والمهن الحرة والتجارة. ومثل باقي الجاليات الأرمنية تعمل في أميركا الأحزاب الأرمنية والجمعيات الثقافية والاجتماعية والخيرية والمدارس التابعة للطوائف الأرمنية. أول مجلة أرمنية صدرت في نيو جيرسي عام 1888 وبعد ذلك حتى اليوم صدرت حوالي 325 مطبوعة يومية أو أسبوعية أو شهرية. واليوم تصدر في أميركا 74 مطبوعة. وتشكل الجالية الأرمنية في دول خارج اطار دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، أي الشتات الأرمني. الولايات المتحدة 1،000،000 وبعد الحديث عن هذه الأمثلة ولو بإيجاز يتبين بأن الانتشار الأرمني وجد على هذا الشكل وبهذه الاعداد الكبيرة بعد المجازر الأرمنية. وإن تبدل الأعداد في بعض الجاليات على حساب جاليات أخرى تعود إلى أزمات وصعوبات محلية أو اقليمية مثلما ارتفع عدد الأرمن في أميركا على حساب الأرمن في دول الشرق الأوسط. أما تنظيم هذه الجاليات فرغم الفرق في الاعداد والتقاليد والحضارات والامكانيات فنرى بأن للأحزاب الأرمنية الثلاثة وجود كثيف في أكثرية الدول وخاصة في الشرق الأوسط وأميركا وأوروبا وان * نائب في البرلمان اللبناني |