تطبيق المبدأ على صعيد المسألة الارمنية |
د. اميل معكرون * في تاريخ الشعوب وسير العظام حواجز تعترض المسيرة. تبدأ لعبة المصير عندما يقرّر هؤلاء تجاوز النفق المظلم وانتزاع بقعة لهم تحت الشمس. إن هذا الإصرار على استرجاع وطن إن هو إلا فضيلة الشعوب المقهورة، المضطهدة، المخيبة الآمال، والأفراد الذين سلكوا درب الآلام منذ سن الطفولة. حصنّهم الألم، وسلحتهم العزيمة، فغدوا أقوياء. تجاوزوا بحر الظلمات، يحدوهم أمل الوصول إلى الشاطئ الآمن، مهما تصببّوا عرقاً أو نزفوا دماً. هناك فعل صراع البقاء، وحافز الرد على الاضطهاد والإذلال والإقتلاع والإبادة، بالعمل على إعادة احياء وطن واستعادة حق طبيعي، واجتذاب شتات توزع في القارات الخمس. دفع الشعب الأرمني، أكثر من سواه، بشدة إلى الانحناء... إلا أنه ظل مقداما. عمل بصمت. صممّ على أن ينتصب وينفض عنه الرماد، ويتعالى على الجراح. ولأن الأمر مرتبط بهيبة وطن ومصير شعب وبقايا إرث حضاري، كان المسؤولون من مدنيين وضبّاط يضعون الخطط، كل مساء، مع أحلام مواطنيهم النائمين في منازلهم أم في العراء، في الدفء أم في الصقيع، في الكفاف أم في الفاقة. ولا شك أن وحدة الشعب الأرمني، بالرغم من تعدّد انتماءاته، قد تكرست بدم الذين رفضوا الإحساس بالعار والخجل، بأنهم سيقضون، دون أن يخوضوا غمار الصمود، في ساحات المجد والشرف. أثبت هذا الشعب ان أعظم مظاهر المجد أن لا يستسلم المرء. تختصر القضية باستجابة حضارية – أخلاقية للتحديات. هناك رغبة في طي الماضي القاتم والتمديد لغد مشرق. يريد الأرمن أن يصبحوا موضع اعتزاز، أصدقاء الجميع وأعداء لا أحد. ولا شك أن حافز هذه المعاناة، إن هو إلا اصرار على ايمان هذا الشعب بحق تقرير مصيره بنفسه، بعد أن قدّم القرائن الثبوتية في اكثر من مجال. ماذا لو نستنطق الجغرافيا والتاريخ ونستشرف دور الصمود الأرمني في محاولة موضوعية لتقييم هذا التوجّه، ومناقشة هذا التصور، مفردين التفاتة خاصة لإقليم ناغورنو كاراباخ، الذي لا يزال وضعه موضع تجاذب سياسي ونزاع عسكري. ما نبتغيه هو، في الواقع، أن نبين إذا كان الشعب الأرمني قد استوفى الشروط التي تخوله ممارسة حق تقرير مصيره، بمعزل عن الدساتير والأنظمة الدولية التي لا تصمد امام الاطماع، ولا تترجم عملياً إلا في إطار مصالح متبادلة تتم بين الكبار وعلى حساب الضعفاء. إن السياسة هي بنت التاريخ، والتاريخ ابن الجغرافيا، والجغرافيا لا تتغير. ينطبق هذا القول على واقع الشعب الأرمني. فالتاريخ والجغرافيا متلازمان متفاعلان إلى حد بعيد، بحيث يتركان حيناً نتائج فكيف هي الحال في أرمينيا؟ 1– العامل الجغرافي أ – طبيعة أرمينيا هكذا آزر الجبل السهل وأخصبه. تآلفت التناقضات: برودة وحرارة، رطوبة وجفاف، مرتفعات ووديان ، خصوبة وقحط... فإذا نشأت معاطاة هادئة بين المواطن والأرض الوعرة. ضرب بمعوله وروى بعرقه فأجزلت له في العطاء بإنتاجها الغذائي. وفرت له الملاذ عند الشدائد. فإذا نحن أمام علاقة حب، أما قضية مصير، أمام علّة بقاء. تأهل الحس الوطني عنده، وتميّز بالصفاء والبراءة والقداسة. لا نفط عنده، لا مواد أولية تذكر، لا مقومات رفاهية. ما هم؟ إنها إرث الأجداد، الوديعة الكبرى الغالية. أشارت اليها الكتب المقدسة. بحسب أسطورة الطوفان: وفّر جبل أرارات لنوح وأسرته الرسو والخلاص. وأسهم تعدد هذه الهضاب والمجازات الصخرية في نشوء مجتمعات تتمتع باستقلال ذاتي، بانطوائية خاصة، فإذا أرمينيا فسيفساء، تشكل لوحة واحدة، وإن تعددت الألوان والأشكال. المعاناة الأولى تكمن إذن في الصراع مع الطبيعة وحب البقاء، في وطن يتطلب التقشف والتضحيات. ب – دور الموقع وأما أرمينيا، فهي محور تتجاذبه ثلاث دول مجاورة: روسيا القيصرية أولا ثم الاتحاد السوفياتي لاحقا... الامبراطورية الفارسية ثم إيران اليوم، السلطنة العثمانية ثم تركيا العلمانية فيما بعد. وإذا الأرمن ثلاث فئات: فئة بقيت في الوطن الأم تقاوم الخطر وتواجه الصعوبات .فريق كبير استشهدد بفعل الاضطهاد والإبادة والتنكيل والتشريد والتجويع، فشكل فداء للوطن. أولا توفر هذه المثابرة، هذا الولع الكبير بالوطن الأم، للشعب الأرمني حق تقرير مصير بلاده بنفسه، في ضوء القوانين والانظمة الدولية المرعية الإجراء؟ 2 – العامل التاريخي وعند بدء الحرب العالمية الأولى، انخرط بعض الأرمن في صفوف الجيش الروسي بحكم وجودهم في منطقة النفوذ الروسي، الأمر الذي أعطى العثمانيين الذريعة للتخلص من عدو داخلي. فبدأت عملية إبادة منظمة من قبل حزب الاتحاد والترقي الحاكم، بعد إطاحة عبد الحميد الثاني عام 1908. كان الاتحاديون يعتمدون التتركة أساس حكم ونهج ونظام. فنقل البعض وقضي على البعض الآخر من الأرمن. وبلغت ذروة التصفية ابتداء من 24 نيسان 1915. فهلك اكثر من مليون ونصف مليون. والجدير بالذكر أن المسؤولين الأتراك أعلموا بعض المسؤولين الأجانب مسبقا حول عزمهم النيل من الشعب الأرمني لأسباب احترازية وقائية، حفاظاً على وحدة السلطنة واستمرار سيادتها. وعلى سبيل المثال، صرّح كامل باشا (وزير ثم صدر أعظم) "أن سبب وجود الامبراطورية العثمانية يتطلب ان نضمن مستقبلنا عن طريق محو الشعب الأرمني... وبوسعنا إعلان الجهاد ضدّ شعب أعزل". وأعلن طلعت باشا بدوره أمام السفير الأميركي هنري مورغنتاو، في صيف 1915، بأنه فعل خلال ثلاثة أشهر فقط ما لم يفعله السلطان عبد الحميد خلال ثلاثين سنة. وكرر أمام السفير الألماني البارون هانز فون وانغنهايم: "لم يعد للأرمن وجود". ان طرد الأرمن ليس لأسباب عسكرية فقط، انما بهدف التخلص من اعداء الداخل، في ظل الحرب، وبأن الأتراك لن يسمحوا للتدخلات الديبلوماسية بالهائهم عن هدفهم. والملفت أن بعض الضباط الألمان لم يتوانوا في اعطاء التعليمات بقتل الأرمن باعتراف المسؤولين الأتراك. نفذت هذه المجازر دون أن تتحرك الدول الكبرى، بل سهلت احيانا حدوثها، أو احجمت عن ايقافها، أو اعترضت شكلا وتخاذلت فعلا. أما روسيا، فتختصر سياستها تجاه الأرمن باللامبالاة حينا والنهج العدائي أحياناً. كانت تعارض بشدة نشوء دولة أرمنية. كما أمر ستالين بضم اقليم كاراباغ إلى أذربيجان عام 1923. 3 – حق تقرير المصير أ – في الأساس ب – في التطبيق وبذلت جهود أرمنية حثيثة قبل انعقاد مؤتمر سان ستيفانو في آذار 1878 الذي اعترف بأرمينيا، واشترط بقاء الجيش الروسي في مناطق أرمينيا المحتلة، مقابل إقرار السلطنة العثمانية باصلاحات تكفل حماية الأرمن، وضمانة سلامتهم في وجه أي اعتداء.الا ان المصالح الاقتصادية والمساومات، التي تتم غالبا بين الدول على حساب حقوق الشعوب الضعيفة، أسفرت عن تراجع للدعم الدولي للمطالب الأرمنية في مؤتمر برلين 1878. وسيستغل العثمانيون انهماك الدول الكبرى بمصالحها الخاصة، فيرتكبون مجازر 1894 – 1896. ومع وصول الاتحاديين إلى الحكم عام 1908، تخوّف الأرمن من مضاعفات سياسة التتريك، التي لن تسلّم بوجود أقليات قومية تطالب بالاستقلال، لأن ذلك يعني انفراط عقد السلطنة. لذا طالب الأرمن روسيا بوضع البند 61 من معاهدة برلين موضع التنفيذ. وقد أثمرت هذه المساعي بتخويل الدول الكبرى الموقعة تنفيذ الاصلاحات الأرمنية. ولاح أمل جديد مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وخسارة العثمانيين إلى جانب ألمانيا والنمسا – هنغاريا، فنشط الأرمن لتكريس دولتهم ككيان سياسي مستقل، وخاضوا مواجهة عنيفة مع الأتراك وانتزعوا اعلان استقلال أرمينيا في 28 أيار 1918. وقد سلمت تركيا بذلك من خلال معاهدة باطوم وهدنة مودروس في حزيران 1918. وغطت أرمينيا مساحة 54000 كلم2. الا ان مصطفى كمال لم يسلم بهذا الانجاز، فشنّ الأتراك هجوما كبيرا على المناطق الأرمنية في أواخر أيلول 1920. تجاهلت الدول الكبرى ما حدث، وعجزت القوات الأرمنية عن المقاومة. وتدخلت القوات السوفياتية بدورها في الأراضي الأرمنية. فارتضى الأرمن مكرهين ان تتحول بلادهم إلى جمهورية سوفياتية في أواخر عام 1920. ومع انعقاد مؤتمر لوزان عام 1923، طالب الأرمن عبر بعثتين ان يشاركوا على أساس ما ورد في مؤتمر سيفر بشأن الاعتراف باستقلال أرمينيا. الا ان الدول المؤتمرة لم تسلم بذلك، بل على اساس وهكذا اقتصرت الآمال على جمهورية أرمينيا السوفياتية. ولم تستطع المعارضة المتمثلة بحزب الطاشناق أن تغير في الوضع القائم. وستتحول إلى جمهورية قائمة بذاتها عام 1936، بعد أن اعتبرت في السابق عضواً في الاتحاد القوقازي. وفي 1944 طالب حزب الطاشناق بتوسيع حدود أرمينيا السوفياتية وإعادة المناطق المسلوخة. وخلال انعقاد مؤتمر سان فرانسيسكو بحضور 51 دولة، طالب وفد أرمني بضم أرمينيا التركية إلى ارمينيا السوفياتية. وجدد حزب الطاشناق في 21 كانون الأول 1945 مطالبه بشأن إعادة أرمينيا التركية، اعتماد حدود 1920 التي نص عليها مؤتمر سيفر، عودة حوالي مليون أرمني، دفع تعويضات عما فعلته تركيا بالأرمن. الا ان الاتحاد السوفياتي أعلن ان لا مطالب له في تركيا، فتأكدت لا مبالاة الدول الكبرى ازاء القضية الأرمنية. استمر الشعب الأرمني عبر احزابه الثلاثة ومؤتمراته واحتفالاته السنوية بذكرى مجازر نيسان 1915 في تحريك قضيته العادلة في المحافل الدولية. وقد نجح في تسجيل خطوة مهمة في آب 1985، إذ صدقت لجنة حقوق الانسان على وثيقة تدين مجازر العثمانيين ضد الشعب الأرمني. عقبتها خطة ثانية من قبل البرلمان الأوروبي في 18 حزيران 1986 في هذا الصدد. استحق الأرمن عن جدارة استعادة وطنهم. كان الردّ على التحدي الأجنبي حضاريا مسالما ومقنعا. أما بشأن بعض العمليات المحدودة التي تعرضت لها مصالح تركية، فهي استهدفت في الواقع لفت اهتمام العالم وتذكيره بوجود شعب أصيل، من حقه أن يقرر مصيره، ويستعيد كرامة وسيادة وطنه. 4 – مسألة اقليم ناغورنو – كاراباغ وبدأت عملية مسح تاريخي وجغرافي وحضاري بعد المسح الجسدي على يد الأتراك. فتحولت عملية "الإفناء" على يد الأتراك إلى عملية "إلغاء" على يد الأذربيجانيين. قبل أن نستعرض مساعي إن مخترع الأبجدية الأرمنية بين 403و406م، مسروب مشطوطس فتح أول مدرسة في إقليم كاراباغ. بقي أن نعرف دور الشعب في المطالبة بحق تقرير مصيره في هذه المنطقة التي اعتبرت رمز أرمينيا التاريخية. وحتى الآن، لا تزال المسألة موضع تجاذب سياسي عسكري. إلا ان النزاع انحسر في الفترة الأخيرة بانتظار ايجاد الحل النهائي. قد تكون المعاناة المزمنة، والصمود في وجه الحملات العسكرية المتنوعة، التفاؤل الدائم بالرغم من خيبات الأمل، الاستجابة الحضارية على التحدي التوسعي... قد يكون كل ذلك السلاح الأمضى في ترسانة الشعب الأرمني.معركة مصير، أو صراع بقاء شكل سابقة، بل حدثا، في التاريخ المعاصر. كيف أن شعبا مستضعفا قاوم على مرّ السنين الحملات العسكرية والمؤامرات الدولية والتسويات الاقتصادية على حساب الأرض والانسان والتاريخ والتراث في أرمينيا. الأمبراطوريات الثلاث التي تقاسمتها دالت، وبعثت أرمينيا حيّة من الرماد. لا شك أن العثمانيين تهيبوا الوجود الأرمني بالرغم من ضآلة عدد السكان وضيق الرقعة وقلة الموارد الطبيعية. ان اسلوب الابادة والاقتلاع لم يكن مزاجيا، بل منظما لأستئصال خطر يهدد المخطط الطوراني. مع أن الأرمن كانوا اشد الشعوب المسيحية إخلاصا في خدمة الدولة العثمانية، فعرفوا باسم "الملة الصادقة"... ومع انهم قدموا للاتحاد السوفياتي منجزات رائدة في مجال الفن والتقنية وتطوير الطائرة النفاثة... بمعنى آخر لم يشكلوا عالة على أحد، بل ابتكروا السبل الكفيلة لتأمين الكفاف وتسجيل قفزات نوعية حضارية. انها القضية الحيّة العادلة في ضمير كل أرمني، وفي ضمير كل شريف أينما وجد في هذا العالم. حيثما حلوا خلقوا أرمينيا مصغرة عبر صحفهم ومدارسهم وأعيادهم ومؤتمراتهم، وحتى أسماءالساحات والشوارع التي أقاموا فيها، كما في بيروت وغيرها. ان الحس الوطني عند الشعب الأرمني ديانة ثانية، إنما زمنية تستحق التضحية. هناك حداد وطني أصاب الجميع، فاذا التربة تنضح بدم الشهادة، واذا سيمفونيا الحزن المتفائل تتفاعل في وجدان الصغار قبل الكبار، تلازم المقيم والمغترب في آن. نجح الأرمن في رهانهم واستعادوا وطنا شطب من الخريطة. أثبت هذا الشعب انه جدير بحق تقرير مصيره بالوسائل الديموقراطية... وإذا دعت الضرورة، فهو بارع في حمل السلاح بشهادة خصومه. ان تلون الروس في مواقفهم، وحياد الايرانيين وتحفظ الجيورجيين، وتعاطف العرب مع المسألة الأرمنية يؤكد أن الصراع الأرمني – الأذربيجاني لم يتسم اجمالا بالطابع المذهبي، بل يرتكز في الأساس على استعادة وطن الأجداد. ان اسلوب الإبادة والاقتلاع والنفي إن دلّ على شيئ، فعلى ان أرمينيا موجودة بالفعل. والسلطنة العثمانية لا تحارب إلا من تخشى. وفي النهاية لن تصمد إلا الحقيقة المقرونة بالحق المشروع. * استاذ في الجامعة اللبنانية |