أرنولد توينبي |
من التوطئة التي كتبها " للكتاب الأزرق" الذي نشرته الحكومة الانكليزية في آب 1916 والذي يحتوي على شهادات شهود عيان كثر حول المجزرة الأرمنية، وعلى تحليلات مؤرخين محايدين تتمتع بصفة علمية واكاديمية لا غبار عليها: وفي مرحلة ثالثة يجب تحديد عدد الذين قضوا او الذين نجوا من هؤلاء المليون. وهنا أيضا تندر المعطيات ولا يجوز التعميم لأن ممارسات السلطات التركية كانت متنوعة ومختلفة . ففي بعض الولايات مثل فان وبتليس لم يحدث أي إبعاد ولكن مجازر فورية وفي ولايات أخرى مثل أرضروم وطرابزون وأنفورا كان هناك إبعاد ومجازر في الوقت نفسه. فالقوافل تعرّضت، بشكل منهجي، للتقتيل في توقفها الأول على الطريق. من جهة أخرى، في كيليكيا، تمّ إبعاد كل الرجال والنساء فعلا، وقوافلهم هاجمها الجوع والمرض في الطريق، وهنا حيث لم تحدث مجازر جماعية خلال السفر تعرّضت المواكب للابادة بشكل تدرّجي، وهكذا مثلا فان قافلة كبرى تعد 19 ألف أرمني من معمورة العزيز وسيواس انطلقت من مالاطيا Malatia ليصل عددها إلى 301 مبعد في قيران – وإذا كانت الجريمة، من حيث الكم، تخضع لشك وجدل، فليس هناك أدنى شك حول مسؤولية مرتكبيها. هذه الآلام الفظيعة لم تكن من فعل تعصّب ديني (...) و"الحرب المقدسة" التي أعلنتها تركيا – الفتاة عام 1915 كانت، ببساطة، عملاً سياسياً هدفه إحراج المواطنين المسلمين في دول التفاهم. لم يكن هناك من تعصب ديني مثلاً في تصرف الأكراد والشيتين Chettis (أعضاء المنظمة الخاصة) الذين ارتكبوا بعضاً من الأفعال المرعبة والذين لا يمكن رغم ذلك تحميلهم المسؤولية. لقد كانوا مجرّد قطاع طرق ومجرمين يعملون على عادتهم، ومسؤولية أفعالهم يجب أن تقع بالكامل على عاتق الحكومة التي كانت تبرّر أعمالهم وتدعمها أيضاً. وكان القرويون يتصرفون بوحشية مذهلة حيال الأرمن الذين أرسلوا إليهم؛ ورغم ذلك لا تقع المسؤولية أبداً على كاهل القرويين الأتراك فهم خاضعون طائعون لا يميلون إلى القيام بمبادرات خاصة بهم رغم قدرتهم على ارتكاب الفظائع بإشارة واحدة من الذين اعتادوا على إطاعتهم. وما كان القرويون ليهاجموا الأرمن لو لم يتلقوا الأوامر ويجب تحميل المسؤولية إلى موظفي الحكومة العثمانية ولكن ليس بطريقة متساوية على كل اعضاء التراتبية الرسمية. إن تصرف الجندرمة مثلا كان فظيعا جدا. لقد كان المأمورون مدفوعين من الأوامر التي تلقوها من رؤسائهم لممارسة نوايا سيئة حيال الأرمن. إن نسبة كبيرة من المآسي المرتكبة كانت على يد الجندرمة. ورغم ذلك فان رجال الشرطة لم يكونوا مستقلين لذلك فان مسؤولية تجاوزاتهم يجب أن تقع على الموظفين المدنيين المحليين أو الحكومة المركزية أو الاثنين معاً على الأرجح.موظفوا المقاطعات والأقضية المحليون – من والين ومتصرفين وقائمقامين – يجب لومهم كثيرا على وجه التأكيد. فقد تركت لهم الحكومة المركزية حرية تصرف واسعة كما يدل التنوع الكبير الذي إن جزءا كبيرا من المسؤولية يقع عليهم؛ على الدمويين منهم مثل حاكم أورفه أو غيره. ورغم ذلك فان حريتهم بالعمل كانت ضعيفة نسبياً. وعندما كانت النوايا السيئة حيال الأرمن هي التي تدفع الموظفين فقد كانوا يتمتعون بحرية واسعة في تخطي التعليمات الحكومية، ولكنهم لم يملكوا أبدا حق التخفيف من هذه التعليمات التي يتلقونها. وكان الحكام الانسانيون والمحترمون (وكان هناك عدد من هؤلاء) عاجزين عن حماية الأرمن الساكنين في مقاطعاتهم إذ كان للحكومة المحلية عملاءها المحليين ورئيس الشعبة المحلية للاتحاد والترقي، قائد الشرطة المحلية، أو حتى بعض الموظفين الصغار التابعين للحكومة – وإذا حاول هؤلاء الحكام المتعاطفين مع الأرمن تطبيق التعليمات مع بعض الرأفة أو التساهل فإنهم يفقدون الثقة فوراً وتزول حظوتهم. وإذا رفضوا تنفيذ الأوامر فإنهم يتعرضون للخلع ويستبدلون فورا بحكام مطيعين. وعلى كل حال فان الحكومة المركزية كانت تفرض وتراقب تنفيذ المخطط الذي وضعته لوحدها وبمفردها. وكان وزراء تركيا - الفتاة والمتواطئين معهم من القسطنطينية ومسؤولين مباشرة وبشكل شخصي وبلا قيد من البداية حتى النهاية، عن الجريمة الكبرى التي عصفت بالشرق رواية ممرضة ألمانية بين 10 و30 أيار تم اعتقال 1200 وجيه أرمني (...) في ولايتي دياربكر ومعمورة العزيز. وشاع أنه يجب نقلهم الى الموصل ولكن لم نعد نسمع شيئا عنهم. في 30 أيار تم نقل 674 منهم في 13 مركباً على نهر دجلة بحجة نقلهم إلى الموصل. وقد تولى خمسون عسكرياً من عند الوالي مهمة مرافقة الموكب. وقد صعد نصف العسكر إلى المركب في حين أن النصف الآخر راح، محمولا على الدواب، يسير بمحازاة النهر. بعد وقت قصير سلبت نقود السجناء (حوالي ستة آلاف ليرة تركية) ثم ملابسهم قبل أن يتم رميهم في النهر. وقد تلقى العساكر الراكبين على الدواب الاوامر بعدم السماح لسجين واحد بالنجاة. وقد بيعت في هذه الفترة نفسها تقريبا اجبر 700 شاب أرمني على الدخول في الجندية قبل أن يستخدموا في بناء طريق كارا – بخشتيه – حبشي. ولم نعد نعلم شيئا عن مصير هؤلاء. ويقال بأنه في يوم من الأيام تعرض خمسة رهبان للسلب والتعرية في دياربكر قبل ان يطلوا بالقطران ويسيروا تحت التهديد في الشوارع. في ولاية حلب تم طرد سكان هاجين وشار والبستان وغوسكو وطشولوك وزيتون وكل قرى الاباش وفرنذ وشيفيلجي وغيبن والقرى المجاورة، فونداجيك وحسان – بيلي وهارني ولباشي ودورتيول وغيرها. وقد وضعوا في مواكب عديدة راحت تجتاز الصحراء بحجة وضعهم في أماكن أخرى وفي قرية تل أرمن (على طول خط سكة حديد بغداد قرب الموصل) وفي القرى المجاورة قضى خمسة آلاف شخص في مجازر لم تترك أحياء إلا القليل من النساء والأطفال. لقد رمي الضحايا أحياء في آبار أو في النار. وقيل بأن الأرمن سوف يستخدموا في زراعة أراضي واقعة على مسافة بين 24 و30 كلم في خط حديد بغداد. ولكن بما أنه لم يتم اقتياد إلا النساء والأطفال، لأن الرجال – ما عدا المسنين منهم – اقتيدوا إلى الحرب، فهذا لا يعني أقل من مجزرة عامة بحق العائلات التي لا تملك لا الوسائل ولا الرساميل الضرورية لاستصلاح الأراضي. (...) خلال شهر كامل كانت ترى جثث يجرفها الفرات كل يوم تقريبا وغالبا ما كانت الجثث مربوطة ببعضها البعض من اثنين إلى ستة، وغالبا ما كانت جثث الرجال مقطعة الأوصال ببشاعة (الأعضاء لتناسلية مقطوعة، أو تشويهات أخرى من هذا النوع). أما أجساد النساء فكانت مبقورة. وقد رفض قائمقام جيرابولس دفن الجثث بحجة أنه من المستحيل التحقق ما إذا كانت تعود لمسلمين أو لغير مسلمين مضيفا بأنه لم يتلق أوامر بهذا الصدد، وقد راحت الطيور الكاسرة والكلاب تلتهم هذه الجثث المرمية على ضفاف النهر. وهناك الكثير من الألمان الذين كانوا شهود عيان على هذه الحقائق. وقد نقل أحد عمال سكة حديد بغداد بأن سجون بيرجيك كانت تمتلئ بانتظام كل يوم ثم تخلى في الليل في الفرات. وقد رأى كابتن في سلاح الفرسان الألماني عددا لا يحصى من الجثث على طول الطريق بين دياربكر وأورفه. (...) حلب وأورفه هما مكاني تجمع المواكب المبعدة. وكان هناك خمسة آلاف في حلب بين حزيران وتموز؛ وخلال كل الفترة من نيسان إلى تموز فقد مرّ عبر المدينة أكثر من خمسين ألفا. وقد خطف الجنود والبدو الرحل الذين يتبعوهم كل الفتيات الشابات بدون استثناء. وقد راح والد في قمة اليأس والحزن يرجوني بأن آخذ معي ابنته على الأقل، التي تبلغ الخامسة عشرة من عمرها، لأنه لم يعد قادراً على حمايتها من العذاب الذي تتعرض له. وليس بالإمكان إحصاء الأولاد الذين تركهم الأرمن في الطريق. والنساء اللواتي يشعرن بآلام الطلق (الولادة) مجبرون على متابعة الطريق دون هوادة. وقد ولدت إحدى النساء توأما في محيط عينتاب؛ ولكنها أجبرت في صباح اليوم التالي على متابعة الطريق. وقد اضطرت للتخلي عن طفليها تحت دغل قبل أن تنهار كليا. إمرأة اخرى شعرت بآلام الطلق على الطريق لكنها أجبرت على متابعة السير قبل أن تقع ميتة بعد ذلك بقليل. لقد جرت حوادث مماثلة بين مرعش وحلب.قرويّو شار سمح لهم بحمل بعض الأدوات المنزلية. وفجأة في الطريق قيل لهم : " وردنا أمر بأن نترك الطريق الكبرى ونعبر في الجبال". وهكذا أجبر الجميع على التخلي عن كل الأمتعة والحمولة لمتابعة الطريق سيرا على الأقدام في الجبال الوعرة. وكانت الحرارة قوية جدا إلى درجة أنها قتلت العديد من النساء والأطفال منذ ساعات الرحلة الأولى.هناك حوالي 30 ألف مبعد ليس لدينا عنهم أي خبر لأنهم لم يصلوا إلى حلب ولا إلى أورفة. • رسالة من حلب مؤرخة في 8/10/1915 موقعة من أربع أساتذة من مدرسة ريال الألمانية في حلب وموجهة إلى وزير الخارجية الألمانية في برلين (وثيقة رقم 66) وقد نشرت نسخت عنها في لوجورنال دو جنيف في 17 آب 1916 : Le Journal de Genève "يبدو أن من واجبنا جذب انتباه وزارة الخارجية إلى أن عملنا المدرسي سوف يفتقد من الآن وصاعدا إلى القاعدة الأخلاقية ويفقد كل سلطة في أعين السكان المحليين إذا كانت الحكومة الألمانية فعليا خارج القدرة على التخفيف من عنف الإجراءات المطبقة ضد النساء والأطفال الأرمن المبعدين. وبوجود مشاهد الرعب التي تجري أمام أعيننا كل يوم بالقرب من مدرستنا فإن عملنا كمدرسين بات تحدّيا للإنسانية. كيف يمكن لنا أن نطلب من تلاميذنا الأرمن ان يقرأوا قصص الأقزام السبعة؟ كيف يمكن لنا تعليمهم الإعراب في وقت يحصد الموت فيه مواطنيهم في ملاعب المدارس المجاورة! عندما يلفظ الأطفال والبنات الشابات والنساء العاريات تقريبا المطروحين أيضا بين الأموات والمحتضرين أنفاسهم الأخيرة!. وصل من أرمينيا حوالي ألفين إلى ثلاثة آلاف بصحة جيدة لكن لم يبق إلا أربعين أو خمسين هيكلا عظيماً. الجميلات وقعن ضحية شنق حراسهن والبشعات وقعن ضحية الجوع والعطش والضرب؛ فقد منع على الغربيين توزيع الطعام على الجائعين. وفي كل يوم تحمل من حلب أكثر من مئة جثة. ويجري كل ذلك أما أعين الموظفين الأتراك الكبار. من أربعين إلى خمسين شبح هيكل عظمي مكدسين في الملعب المواجه لمدرستنا. إنهم مجانين! عندما نقدم لهم الخبز يطرحونه جانباً دون اكتراث منتظرين الموت المحتم!.(...) سيبقى شرف المانيا ملطخا في ذاكرة شعوب الشرق. بعض سكان حلب المتعلمين أكثر من غيرهم يقولون: "الالمان لا يريدون هذه الفظائع. ربما يجهل الشعب الالماني وجودها. وإلا فكيف يمكن للصحف الألمانية، صديقة الحقيقة، أن تتكلم عن المعاملة الانسانية التي يتلقاها الأرمن المتهمين بالخيانة العظمى. ربما أن أيدي الحكومة الألمانية مكبلة بقيود المصلحة المتبادلة بين الدولتين. ويتوقع حصول مجازر أكثر رعباً بعد صدور مرسوم جمال باشا (الذي يمنع على مهندسي خطوط سكة حديد بغداد من تصوير القوافل الأرمنية). إنها البرهان علي أن السلطات المعنية تخشى الإضاءة على الحقيقة ولا تريد أن تضع حدً لهذه المشاهد غير المشرفة بحق الإنسانية جمعاء. ونحن نعلم بأن وزارة الخارجية تلقت من جهة أخرى أوصافاً مفصلة لما يجري هنا. ولكن بما أنه لم يحدث أي تغيير في نظام الإبعاد فإننا نشعر بأنه من واجبنا كتابة هذا التقرير خاصة وأن وضعنا في الخارج يسمح لنا بالرؤية الواضحة للخطر الكبير الذي يهدد اسم المانيا وسمعتها". - من كتاب المجزرة الارمنية(1915)، وثائق من الارشيف الدولي – د. غسان العزي |