المسألة الارمنية في النظام الدولي المعاصر |
د. دعد بو ملهب عطا الله * أشرف القرن العشرين على نهايته ، والمسألة الأرمنية، التي ورثها عن سلفه، ما زالت تنتظر حلا . والحل يبقى خاضعا، إلى حد بعيد، لمصالح وحسابات القوى القيمة على النظام الدولي. أما القوتان أما التحولات في النظام الدولي، خلا ل هذا القرن ، فلم تحمل معها مؤثرات فعلية لصالح "القضية الأرمنية" وظلت بالتالي المسألة مطروحة . هكذا تكمن هذه المسألة، للأسف، في انعدام وزن "القضية" في الحسابات الكبرى. إن عودة إلى تحولات النظام الدولي ، خلال القرن المنصرم ، قد تكون كافية لإبراز هذه الظاهرة. وفي كل الأحوال، مثل هذه العودة إلى نظام فرساي ونظام الاستقطاب الثنائي هي كفيلة بالدلالة على استيعاب الأرمن أنفسهم للمعطيات الدولية ومحاولة التعاطي معها بالإمكانات المتيسرة بانتظار ظروف أفضل . أولا: التفاهم الإقليمي على حساب الأرمن ففي إطار السوفتة ، على إثر الثورة في روسيا كانت نشأة الجمهورية الأرمنية في القوقاز التي سرعان ما اعترفت بها اسطنبول . وكانت هذه الجمهورية كناية عن الجزء الذي اقتطعه الروس ، في أوائل القرن التاسع عشر، من البلاد التي قطنها الأرمن عبر التاريخ والتي كانت واقعة في الإطار العثماني منذ قرون. أما المواجهة التي حصلت بتشجيع من دول كبرى، في بعض المناطق الأرمنية العثمانية، فكانت في مصلحه الأتراك . إن هذه الدول، التي اهتمت في العقود السابقة بالمسألة الأرمنية رفضت التدخل الآن لصالح الأرمن وإنفاذا لقراراتها وعهودها السابقة (مثل معاهدات سان ستيفانو وسيفر). أما الاتحاد السوفياتي نفسه، وريث روسيا ، فتواطأ، وإن بصوره غير مباشرة ، مع الأتراك ضد الأرمن (مسألة الوساطة ) مما أفسح في المجال أمام السيطرة التركية على الولايات الأرمنية . وتزامن هذا الحدث مع الإعلان رسميا عن جمهورية أرمينيا السوفياتية وحكومتها الشيوعية (في آخر سنة 1920). ويشار هنا، على الصعيد الأميركي،أن الأميركيين الذين واكبوا مباحثات نهاية الحرب سرعان ما فضلوا الانسحاب من الساحةالدولية . وكان لهذه السياسة التأثير السلبي البالغ على قضيه الأرمن الذين هكذا، بين المصلحة الإقليمية السوفياتية والمصلحة الانعزالية الأميركية ، كان على الأرمن الاكتفاء بجمهورية أرمينيا القوقازية السوفياتية وتضميد الجراح ريثما تسمح الظروف الدولية بتعديل ثانيا: المسألة الأرمنية في ثلاجة الحرب الباردة كان هذا الموقف من صلب الجيوسياسة السوفياتية الحديثة التي تعتمد على تخطي "القلعة المحاصرة" باتجاه منطقة نفوذ سوفياتية عبر أنظمة موالية على غرار الديمقراطية الشعبية في أوروبا، وإذا أمكن عبر المزيد من الأراضي السوفياتية . هكذا أعد طرح المسألة الأرمنية من قبل موسكو في ظل "النظام الدولي الجديد" الذي ما لبث ان تجسد "حربا باردة" بين حلفاء زمن الحرب. تكمن أبرز مبررات إعادة طرح المسألة في العلاقات السوفياتية التركية التي تردت خلا ل الحرب العالمية الثانية من جهة، وموافقة الحلفاء مبدئيا (وذلك بشخص تشرشل) على إعادة النظر في موضوع المضائق (أتفاق مونترو 1936), من جهة ثانية . أما أبرز الخطوات فكانت، في سنة 1945، سوفياتية وأرمنية: الخطوات السوفياتية كانت كناية عن: نقض الحلف السوفياتي التركي العائد لعام 1925، - والمطالبة بقاعدة دائمة في الدردنيل، - و"استعادة" بعض الولايات التي احتفظ بها الاتراك منذ معاهدة الخطوات الأرمنية ارتبطت بتحركات غير اعتيادية، في صيف 1945، في أرمينيا السوفياتية.- بعد انتخاب بطريرك، على أثر خلو هذا المركز منذ سنة 1938، كان طلب الأرمن من ستالين التدخل لحل قضيتهم القومية بدعم مطالبهم الإقليمية تجاه تركيا،- وفي الخريف، كانت مذكرة البطريرك (كيفورك السادس) الموجهة الى وزراء خارجية الدول الكبرى حول الإبادة ومعاهدة سيفر والحقوق الأرمنية في الإطار السوفياتي – ودعوة أرمن الشتات للانتقال إلى جمهورية أرمينيا السوفياتية. وبالفعل هو لم يتوان عن دعم مواقفه بخطوات ميدانية . لكن كان عليه، في الوقت نفسه، التعاطي مع الفرقاء الآخرين على الساحة . فالأمر لم يعد وقفا عليه وعلى الجارة التركية لأن الظروف تحولت. لقد تحولت مسألة حق حماية المضائق في صيف 1946، إلى بادرة أزمة دولية . فالسوفياتيون اتهموا تركيا بتقصيرها في إتمام المهمة الموكلة إليها بحسب اتفاقية مونترو في ظل تحركات عسكرية على طول حدودهم مع تركيا. لكن تركيا وجدت في الموقف الأميركي دعما لها. والأميركيون اعتبروا، من جانبهم، الاتهام السوفياتي باطلا والأمن الدولي معرضا للخطر. أما الخطوات والمطالب الأرمنية، التي لم تكن مستقلة عن توجهات موسكو، فكانت محكومة بالتأثر بالظروف الدولية ذاتها. ولما احتلت تركيا مجددا موقعا أساسيا في الحسابات الدولية كان على المطالب الأرمنية التراجع مرة أخرى. لقد احتلت تركيا ومسألة المضائق المذكورة ، بعيد الحرب، موقعا محوريا على الساحة الدولة . وكان لهذه المسألة تأثير بالغ حتى في اندلاع الحرب الباردة بين الشرق والغرب وبالأخص في اعتماد الأميركيين سياسة الصد للمحاولات السوفياتية "التوسعية" في أوروبا. إذن اعتبرت المسألة الأرمنية ، على الأقل عمليا، من صلب هذه المحاولات . وبالتالي كان لا بد من مجابهتها من جانب الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. لم يكن ذلك، بالطبع، يعني إرادة منع الأرمن من تحقيق المطالب الموعودة أصلا، بل كان منعا للاتحاد السوفياتي ومعه الشيوعية من التوسع. إذن ، الولايات المتحدة التي وافقت، بعد الحرب العالمية الأولى، على الاعتراف بدولة أرمنية مستقلة، التي حدد الرئيس الأميركي نفسه حدودها على الرغم من عدم قبولها ممارسة انتدابها عليها، وجدت الآن مصلحة لها في دعم تركيا. وطالما أن الأمن الدولي برمته أصبح مهددا، بدا من الأفضل التضحية بمطالب شعب صغير غير قادر على التأثير في ميزان المصالح الكبرى. على الصعيد الجيوسياسي الإقليمي والدولي، كان يعني ليس فقط توسيعا للرقعة السوفياتية نفسها والنظام، بل اقترابا من المضائق والبلقان والمتوسط مع كل ما يعنيه ذلك من تقدم باتجاه تحقيق ثالثا: الستراتيجية الأرمنية في ظل الانفراج الدولي وكان طرح مسألة الإبادة دوليا من منطلق قيمتها كستراتيجية حيوية من حيث كونها محاولة إثبات الحق التاريخي بالأرض. فالاعتراف الدولي بالإبادة الأرمنية يعني عمليا اعترافا باغتصاب تركي للأرض وما يستتبع ذلك من استنتاجات وواجبات . . . وهنا تكون عبارة طلعت باشا الشهرة بأنه "لم تعد هناك مسألة أرمنية" بمثابة أساس لهذه الستراتيجية الأرمنية. وإذا أتى الاحتفال السنوي بذكرى الإبادة في أماكن الشتات مناسبة للحفاظ على نقطة وصل صلبة داخل الجالية الواحدة وبين مختلف الجاليات مهما تباعدت المسافات، فإنه شكل، وهذا هو الأهم بالنسبة لنا هنا، مناسبة للضغط على الحكومات المضيفة لجرها إلى الاعتراف بالإبادة وبالتالي بالحق في استعادة "الأراضي التاريخية". أخذت هذه الستراتيجية دفعا قويا منذ سنة1965 (الذكرى الخمسون للإبادة) واضعة عددا من الحكومات والدول والمؤسسات الدولية أمام المسؤولية. لكنها لم تتوصل إلى إنجاز حاسم حتى الآن. فعلى سبيل المثال، بالنسبة للأمم المتحدة، وجب انتظار صيف 1985 حتى تعرض لجنة مختصة المسألة في جنيف حيث انتهى الأمر إلى حذف الفقرة المتعلقة " بإبادة الأرمن". رابعا: أرمينيا في حسابات أخر القرن العشرين لقد أعاد طرح هذا الصراع الإتني الإقليمي إلى الأذهان بعض جذور المسألة الأرمنية التاريخية. وكان على الدول الكبرى والمؤسسات الدولية التعاطي مع المسألة على أساس المعطيات القائمة والمصالح الكبرى. وتبقى تركيا، كما في السابق، في صلب هذا التعاطي. وربما كان واقع السلطة في يريفان نفسها البرهان على أن الكيان الأرمني الحالي غير كفيل بتحقيق المطالب التاريخية. يمكن تفسير هذا الأمر باعتبار سقوط النظام الاشتراكي وزوال النفوذ السوفياتي غير كافيين لتعديل جذري في المصالح الدولية. هذا مع العلم أن الدور الروسي ما زال فاعلا خاصة على الساحة الإقليمية حيث تتلاقى بعض المصالح الارمنية والروسية. وأرمينيا تعتمد حاليا على الدعم والحماية الروسيين، تقريبا كما في بداية القرن. لا بد أخيرا من الإشارة إلى كون الولايات المتحدة أثبتت بوضوح أنها ما زالت بحاجة للتعاون مع تركيا في الشرق الأوسط . وكذلك، إن الاعتماد الاميركي على تركيا في أسيا الوسطى، إبعادا لإيران عن هذه المنطقة، يزيد في أهمية تركيا التقليدية ويجعلها شريكا من الواجب تفهم مصالحه . ولا يغيب عن البال أيضا الدور الذي قد تكلف به تركيا في أوروبا بالذات (كما في البوسنة). وأبرز هذه المصالح تبقى، على هذا الصعيد، عدم قيام دولة أرمنية على الأراضي "الارمنية التاريخية". طبعا مثل هذا الوضع لا يمكن أن يريح الأرمن الذين عليهم مرة جديدة، الرضوخ لمصالح الآخرين. فتحمل الأرمن لهزيمتهم كانن بلا شكن أسهل في ظل الحالات السابقة من النظام الدولي. أما اليوم، بعد زوال العثماني والسوفياتي، فيأتي مثلا التعاون الأميركي والأوروبي مع تركيا والتعاون الروسي الأميركي الأطلسي في مرتبة تتقدم المصلحة الأرمنية القومية والجغرافية . كذلك، إن القوى في كل الأحوال، يبقى المسار الحالي بمجمله خاضعا للمصالح الحيوية الكبرى التي تتعدى العناصر الإقليمية . لكن التاريخ لا يقف عند هذا الحد والمصالح الكبرى قابلة للتعديل كما موازين القوى... وتبقى مطالب الشعوب مطروحة على الأنظمة الدولية بانتظار المؤاتي منها... * استاذة التاريخ والعلاقات الدولية المعاصرة في الجامعة اللبنانية |