دراسات

أرمن الإسكندرية ودورهم فى الحياة المصرية

بقلم د. محمد رفعت الإمام
17 تشرين الثاني/نوفمبر 2013

لم يسكن الأرمن تقريبا الإسكندرية خلال العصور الوسطي حتي أن الرحالة الأرمني سيمون الناسخ الذي زار الإسكندرية خلال الربع الأول من القرن السابع عشر ذكر أن المدينة تكاد تخلو من بني جنسه، ولكن الرحالة الإنجليزي براون يذكر أن المدينة شهدت وجودا أرمنيا خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر نتيجة لزيادة أهمية الإسكندرية في التجارة الدولية عندما ضعف تدريجيا طريق البنغال- البصرة - حلب - الآستانة وحل محله طريق البحر الأحمر. ومن ثم بدأ التجار الأوربيون يستفيدون من الأرمن واليونانيين والشوام الموجودين بالثغر كوسطاء تجاريين بين أوروبا والسوق المصري .
وشهد عصر محمد علي ( 1805- 1848 ) فترة ذهبية للأرمن في مصر عموما والإسكندرية خصوصا . ففي ذلك الوقت تكاثروا بشدة هناك نظرا لاشتغالهم بالتجارة واستقرار بوغوص بك يوسفيان- الأب الروحي لهم- هناك بعد أن قلده محمد علي منصب " ناظر ديوان التجارة " منذ عام 1826 . وقد أدت هذه الكثافة إلي بناء كنيسة ومدرسة لهم في شارع " أبوالدرداء" وتمركزوا في المناطق المحيطة به . ورغم انخفاض الكثافة العددية الأرمنية بالثغر السعيد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر فإن عروس البحر المتوسط فتحت ذراعيها في عام 1896 بكل دفء وحنان لأكثر من ألف لاجيء أرمني فروا إليها من الاضطهادات العثمانية ضد المد الثوري القومي الأرمني وأسكنتهم فسيح ديارهم بين ظهراني شعبها آمنين سالمين.
ترك بعضهم الثغر إلي القاهرة وبقي الآخرون في رحاب وضيافة سيدة الموانيء والمدن المصرية . ثم تلاحقت أمواج الهجرة الأرمنية الموجة تلو الأخري مستقرة علي شواطيء الثغر إثر تعرض الأرمن في الدولة العثمانية للإبادة علي أيدي الاتحاديين ( 1909 – 1918 ) والكماليين ( 1919 – 1923 ) بغية تنفيذ مشروعهم الطوراني ؛ دولة تركية نقية الدماء .

وبذلك احتلت الإسكندرية المرتبة الثانية بعد القاهرة من حيث استيعاب الارمن عدديا . فقد استوعب الثغر 40"%" من إجمالي الأرمن بمصر مقابل " 53%" استوعبتهم العاصمة بما لها من عوامل الجاذبية ؛ أي أن الثغر والعاصمة قد امتصوا نسبة " 93 %" من أرمن مصر مقابل " 7%" مبعثرين علي جميع مدن الأقاليم المصرية .
بلغ أقصي عدد للأرمن في الإسكندرية عام 1937 وهو " 6867" نسمة بنسبة " 1.15% " إلي المصريين ، ونسبة " 7.77% " إلي الأجانب . وقد توزعوا على الأحياء الإدارية السكندرية من الأكثر إلي الأقل علي النحو التالي : كرموز ، المنشية ، اللبان ، العطارين ، محرم بك ، الجمرك ، ، الرمل ، مينا البصل .
ويلاحظ أن أغلب أرمن الإسكندرية وفدوا إليها من منطقة أزمير وضواحيها. ويرجع ذلك إلي التماثل التام بين أزمير والإسكندرية؛ فكلتاهما ذات طابع عالمي وتركيبة سكانية متعددة الأعراق وثقل سياسي وحضاري واقتصادي متقارب وبناء اجتماعي متشابه وللبحر تأثير فعال علي كلتيهما . في كلمة : توافر المناخ العام في المهجر السكندري لإحداث تكييف حياتى واستمرارية .
أخذت الجالية الارمنية السكندرية في التقلص رويدا منذ قيام الحرب العالمية الثانية ( 1939 -1945 ) ، فتحرك قطاع كبيرمنهم إلي القاهرة عندما بات المحور يهدد الثغر . ثم توالت جملة عوامل أسهمت في هذا التقلص ليس علي المستوي السكندري فحسب ، بل علي مستوي المحروسة بأكملها: الاتجاه العام نحو تمصير الحياة ، قيام ثورة يوليو 1952 ، حربا 1956 و 1967 ، قوانين التأميم الاشتراكية، الموقف العام الذي اتخذته الثورة من الأجانب..إلخ ، كل هذا أدي إلي تناقص أعداد الجالية الأرمنية السكندرية ، ولكن دون أن تتلاشي .
وبعد هذا العرض البانورامي لتكوين الجالية الأرمنية السكندرية مروراً بازدهارها واضمحلالها، نرصد الآن العلامات الفارقة في حياة هذه الجالية وأهم محطاتها ودورهم ومكانتهم وأوضاعهم بالثغر ، ولنبدأ الحكاية من حيث ينبغي أن نبدأ .

ميلاد وزارة الخارجية المصرية في الإسكندرية
استأثر الارمن بمنصب المسئول الأول عن جهاز التجارة والخارجية الذي تعددت مسمياته علي امتداد القرن التاسع عشر . فعندما اتسعت تجارة مصر الخارجية بين عام 1819 – 1826 ، استلزم هذا تنظيم مؤسسة خاصة للتجارة بالإسكندرية تقلد إدارته الارمني بوغوص بك يوسفيان – كبير تراجمة محمد علي الخصوصيين – منذ أبريل 1826 تحت مسمي " ناظر ديوان التجارة " . وعندما أعاد الباشا تنظيم الإدارة المصرية في عام 1837 نظمت الأمور التجارية والخارجية في " ديوان التجارة المصرية والأمور الإفرنجية " . وقد أداره بوغوص أيضا تحت مسمي " مدير ديوان التجارة المصرية والأمور الإفرنجية " حتي وفاته في 11 يناير 1844 .
وهكذا كان بوغوص يوسفيان الأرمني أول وزير لخارجية مصر في العصر الحديث. وجديربالذكر أن العلاقات كانت وثيقة جدا بين محمد علي وبوغوص حتي أضحي الأخير المرآة الشخصية للباشا والمخلص الوحيد له بين حاشيته ،كما كان والي مصر علي دراية تامة بكل ما يجري حوله من خلال بوغوص الذي عرف معلومات غزيرة عن الأسواق الأوروبية والأحداث السياسية العالمية حتي قيل إنه " مستشار محمد علي وفيلسوفه ".
ويؤكد كل من كتب عن عصر محمد علي بأن بوغوص كان أهم موظف في الإدارة المصرية وأنه الشخص الوحيد الذي شغل مكانة قوية عند محمد علي لأنه لم يخن الثقة التي وضعها فيه . كما أنه خدم مصر بكل جهده وله أياد بيضاء في نهضتها وثروتها ، وكان آلة ذكاء علي غاية الاستعداد بين يدي محمد علي .
وبعد وفاة بوغوص ، حل محله أرمني آخر يُسمي آرتين بك تشراكيان منذ 13 يناير1844 حتي 14سبتمبر1850 ، وهو الرجل الثاني في سلسلة أهل الثقة من الأرمن الذين قاموا بدور همزة الوصل الرئيسية بين مصر والدول المتعاملة معها . ثم تولي أرمني ثالث هذا المنصب ويسمي إسطفان بك دميرجيان منذ 20سبتمبر1850 حتي 20نوفمبر1853 حيث فصل الوالي عباس حلمي الاول ( 1849- 1854 ) ديوان الخارجية بالإسكندرية عن ديوان التجارة ونقله إلي القاهرة .
ونظرا لسيطرة الأرمن علي إدارة مؤسسة التجارة والخارجية بالإسكندرية فقد ، أطلق الأجانب علي هذه المؤسسة اسم " الديوان الأرمني".

سوء تفاهم بين المصريين والأرمن
منذ استقرار الأرمن بالإسكندرية وتربطهم علاقات حميمة مع المصريين باستثناء فترة وجيزة من الزمن خلال ثورة 1919 . فقد وشي عملاء تركيا الفتاة في مصر بأن الأرمن يطلقون النيران علي الثوار من أجل كسب ود الإنجليز، وسرت هذه الشائعة مسري النار في الهشيم ، فما كان من المتظاهرين إلا أن انقضوا علي الأرمن سواء في القاهرة أو الإسكندرية.
وتسربت سريعا أخبارحوادث العنف ضد الأرمن إلي الثغر مما أدي إلي اضطرابات شديدة واعتداءات خطيرة ضدهم هناك. ولكنها لم تستمر طويلا ، ولم تكن بضراوة أحداث القاهرة . ورغم ذلك لجأ أكثر من "600" أرمني في 17أبريل 1919 للاحتماء بكنيسة بوغوص بدروس الأرمنية في شارع " أبو الدرداء" خوفا من تطورات الموقف . ولكن بعد حوالي أسبوع ، وعندما تأكدوا من استتاب الأمن ، عادوا إلي ديارهم ومحالهم .

اغتيال زعيم الامة
وما كاد الأرمن يخلصون من التوتر الذي أصاب علاقتهم مع المصريين خلال ثورة 1919 حتي فتح الوشاة أمامهم باباً جديداً لإثارة الفتنة ضدهم عندما أشاعوا بأن الأرمن هم الذين حاولوا اغتيال سعد زغلول في الإسكندرية إبان وزارته الشهيرة بالوزارة الشعبية ( 1924) علي أيدي طالب الطب المصري بجامعة برلين عبد اللطيف عبد الخالق .
ورغم اعتقال الجاني في مكان الحادث فإن لسان المتآمرين أشاع بأن الجاني هو أرمني الجنسية وأن محاولة الاغتيال تهدف إلي الإساءة لقضية مصر. وصاحب هذه الشائعة تيار متطرف مواز له يري في الأرمن عدواً لدوداً . وعندما وصلت الأخبار إلي سعد بأن الحادث تم تلفيقه للأرمن ، أصدر اوامره إلي محمد توفيق نسيم لنشر بلاغ عن الموضوع ويأمر جميع إدارة الشرطة بان يتوخوا الحذر الشديد والعمل علي استباب الأمن . وأذاع نسيم بأن الأرمن هم محبو سلام ويخدمون الوطن بتفانيهم في العمل في جميع مجالات الحياة.

الزواج الإمبراطوري
نغلق الملفات المأساوية لأرمن الإسكندرية ونغادر محطاتها إلي محطة أكثر إشراقة ألا وهي إحياء فرقة أرمنية حفل زواج الأميرة فوزية من ولي عهد إيران شاهبور محمد رضا بهلوي . وتلك حكاية طريفة نحكيها من أولها .
ثمة محاولة أجريت في مصر لإعادة الخلافة الإسلامية زمن الملك فاروق الأول ، والذي كان سيصير خليفة للمسلمين، ولتدعيم هذه الفكرة علي مستوي العالم الإسلامي أقيمت مصاهرة بين الأسرة الملكية العلوية في مصر وقرينتها البهلوية في إيران بزواج الأميرة فوزية بنت الملك فؤاد من الأمير شاهبور محمد رضا بهلوي في 24 مارس 1939 .
ورغم أن الأميرة سنية والأمير شيعي ، فإن الشيخ المراغي أفتي بأن الإسلام ليس فيه ما يمنع مثل هذا الزواج ، كما صّرح علي ماهر رئيس الديوان الملكي بأن اليوم الذي تبدأ فيه الأسرة الملكية المصرية بمصاهرة الأسرة الملكية الإيرانية هو اليوم الذي تبدأ فيه عظمة مصر الحديثة وتصير أكبر درة في التاج الإسلامي . ولكن هذا المشروع لم يفلح ، ولم توفق فوزية في زواجها مما أدي إلي طلاقها في 19نوفمبر 1948 .
أما بالنسبة للحفلة الساهرة التي أقامتها مدينة الإسكندرية احتفاء بحضرة صاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران بحديقة البلدية في 24 مارس 1939، فإن الموسيقار الأرمني الإيراني أشود بادماكريان – وكان يعمل مدرسا للموسيقي في المدرسة الارمنية بالإسكندرية قد أسهم مع زوجته روز وفرقته المكونة من أرمن الإسكندرية في إحياء هذا الحفل بتكليف من الشواربي باشا محافظ القاهرة.

النشاط الاقتصادي
بعد هذه الوقفات السريعة علي بعض المحطات المهمة بالنسبة لأرمن الإسكندرية ، يقف بنا القطار عند محطة النشاط الاقتصادي لهم في السوق السكندري .
مارس أرمن الإسكندرية تقريباً جميع الانشطة الاقتصادية علي المستويات الصناعية والحرفية والمهنية والملكيات العقارية .
ففي مجال الطباعة أسس الأرمن بالثغر أكثر من "13 " مطبعة لعل أقدمها مطبعة وزنكوغراف نازاريتيان التي تأسست عام 1899 .
وفي مجال الصناعات المعدنية اشتهر مصنع إخوان فاهان وموشيغ دير مينجيان الذي تأسس عام 1918 بشارع الأشرف باللبان ، ومصنع جبريان للصناعات المعدنية الذي تأسس عام 1922 في شارع البيضاوي باللبان .
وفي عام 1936 أسس أونيج بولجاريان مصنعا صغيرا بالثغر لإنتاج محابس برونز وطلمبات زهر .
وفي حقل صناعة البراميل ، أسس أرام إينماجيان " الشركة الأهلية لتجارة وصناعة البراميل" عام 1953 في شارع الإسناوي بالورديان . وفي ميدان صناعة السبائك ، أسس ديران كالفيان في عام 1960 " مولي ميتال" لصهر الرصاص ، وفيما يتعلق بالصناعات المعدنية المحلاة بالبلاستيك ، نجد مصنع بكمزيان المؤسس عام 1947 .
أما في حقل الهندسة الميكانيكية ، فقد برزت منشأة " أرتين إسبنجيان " وشركاه التي تأسست عام 1931 في شارع محطة مصر بالإسكندرية . وفي إطار الخراطة الميكانيكية ، أسس دير ساهاجيان ورشته في اللبان . كما أسس أرداشيس فارتان ورشة لصناعة الآلات الميكانيكية عام 1944 بشارع النور في قسم اللبان .
وفيما يتعلق بصناعة المسامير ،فقد اشتهر مصنع " كنج عثمان " الذي أسسه نوراير بن أوهانيان عام 1948 في شارع المحافظة.
كما اشتغل أرمن الإسكندرية في صناعة عدد وابور الجاز مثل مصنع " بيولس" في سيدي إسكندر بقسم اللبان وأسسه باجميان ومصنع " فولكان" الذي أسسه هراتش كالينيان وولده رافي عام 1961 في شارع بوغوص يوسف باللبان .
أيضا اشتهر أرمن الإسكندرية بصناعة الأحذية : مصنع أحذية سيسل بشارع المينا الشرقية ومصنع برج إيفيل للأحذية في شارع قبو الملاح بالجمرك ، مصنع أحذية أرتور بشارع طريق الحرية ، مصنع أحذية زينيت بشارع المحافظة ، مصنع أحذية النمر بسموحة . وينتمي إلي العائلة الجلدية عدة صناعات أخري مثل دباغة الجلود التي اشتهرت بها مدبغة مارديج ضربهانليان وشركاه المؤسسة بالثغر في عام 1933. وكذلك صناعة شنط السيدات في مصنع هايج أشجيان المؤسس عام 1945 في حى بالعطارين .
واشتهر الأرمن في صناعة الدخان وتجارته خاصة مصانع إيبكان وماتوسيان وميلكونيان وجامسراجان.
وعمل أرمن الثغر في جميع الحرف التقليدية التي يمارسها كل أبناء المدينة، ولكنهم تفوقوا من حيث الكيف في حرف الصياغة والتطريز والخياطة الأفرنجي والزنكوغراف والمصوراتية والساعاتية ؛ أي في الحرف اليدوية الدقيقة التي تحتاج دقة ومهارة .
وانتشرت محالهم وورشهم في الشوارع الحيوية بعروس المدائن لاسيما فرنسا والنبي دانيال وجامع العطارين وسوق الصيارف والسبع بنات وتريسته وفؤاد وغير ذلك .
أما في ميدان التجارة بالجملة والقطاعي ، فقد احتل التجار الأرمن ثقلاً مهماً في ميزان النشاط الاقتصادي الارمني السكندري . فقد حصل خليل باشا خياط من الحكومة المصرية في 25أبريل1887 علي حق احتكار استيراد التنباك منذ أول يولية 1890 حتي 30 يونية 1919 . وكان المقر الرئيسي ل" شركة احتكار التنباك " في ميدان محمد علي بالإسكندرية .

وفي مجال استيراد الزيوت المعدنية ، برز "بيت مانتاشوف وشركاه" وهو البيت الوحيد الذي استورد البترول الروسي ،ويقع مركزه الرئيسي بمصرفي شارع كنيسة دبانة بالثغر . وانتشر تجار ال"مني فاتورة " في شارعي مولاي محمد وفرنسا .

وبإحصاء تجار الأرمن في أسواق الإسكندرية ، نجد أنهم حوالي "119" تاجرا مارسوا تجارة الأحذية والجلود والمني فاتورة والمجوهرات والساعات والصيني والسجاجيد والدخان والفونوغرافات والمناديل الإسلامبولي ولوازم العمارات والمسلي الصناعي والحدايد والانتيكات والتحف الشرقية .
هنا ، قد استفاد الأرمن من السمة التجارية العالمية للإسكندرية فضلا عن أنهم من الشعوب التجارية والأقليات الإثنية التي أسهمت في تطوير العلاقات التجارية النقدية والمبادرة الرأسمالية في مصر .
كما امتهن الأرمن العديد من المهن والوظائف الحكومية والخاصة . فقد انتشر الأطباء الأرمن في : كامب شيزار وفرنسا وسعد زغلول والإبراهيمية وجامع العطارين . واشتهر عدد من الأجزاخانات التي يمتلكها أرمن مثل البيون والصحة بالإضافة إلي معامل التحاليل الطبية مثل كشيشان وليفون بالإسكندرية .
ومن أشهر حكيمات ومولدات ( قابلة ) الثغر مدموازيل أنا سيراكيان "حكيمة ومولدة أمراض النساء من مستشفيات لندن دبلوم من جامعة لندن " . وهناك أيضا فارتوهي أبراميان حكيمة ومولدة.
مارس الأرمن السكندريون أيضا مهنة المحاماة أمام المحاكم الأهلية والمختلفة ، كما زاولوا مهنة مأمور تفاليس . وبرز عدد ليس بقليل من أرمن الإسكندرية في مجالات الهندسة بفروعها المختلفة . واما بالنسبة للوظائف ، فقد التحقوا بها محاسبين وتراجمة وسكرتيريين في جميع دواوين الحكومة والأعمال الحرة.
مجتمع الأرمن وثقافته
بداية نلفت أنظار القراء إلي أن الأرمن كانوا حتي انفصال مصر عن الدولة العثمانية في 5 نوفمبر 1914 رعايا عثمانيين ، أما بعد هذا التاريخ فالأرمن الذين حصلوا علي الجنسية المصرية صاروا مصريين ، اما الذين لم يحصلوا عليها فقد عوملوا معاملة الاجانب . وجدير بالذكر أن أغلبية أرمن الثغر مواطنون مصريون لهم نفس حقوق المصري وعليهم واجباته.

ولكن الأرمن يحتفظون فيما بينهم بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وكنيستهم ويتزاوجون من بعضهم ؛ أي أنهم يحافظون علي أصولهم العرقية وتواصلهم الاجتماعي وهويتهم الثقافية يتشبثون بها .ولذا فإنهم يمتلكون خاصية التكيف دون الاندماج .
وكانت الجالية الأرمنية أولي الجاليات سبقا إلي إنشاء المدارس أثناء حكم محمد علي . ويرجع هذا إلي مكانتهم المؤثرة في البلاط وتوليهم عدة مناصب عالية أهلتهم لنيل حظوة والي مصر ورعايته ، فضلا عن اهتمام الارمن بالتعليم عموما كوسيلة للحفاظ علي هويتهم ولغتهم وثقافتهم وعاداتهم . ولهذا أسسوا مدرسة بوغوصيان في حي مطرق ( ميدان كانتو) بالإسكندرية في بداية أربعينيات القرن التاسع عشر. ثم انتقلت في عام 1867 إلي شارع " أبو الدرداء" ومازالت في هذا المكان حتي وقتنا الراهن ، وقد ُسميت بهذا الاسم تخليدا لذكري بوغوص بك يوسفيان الذي كان قد تبرع بالأرض المقامة عليها المدرسة.
دارت مقررات مدرسة بوغوص حول تدريس : اللغة الأرمنية وقواعدها ، اللغة الفرنسية ، الترجمة من وإلي اللغة الأرمنية ، التاريخ الأرمني ، الجغرافيا لاسيما أرمينية ، الخط الأرمني ، ومنذ يولية 1952 ، خضعت مدرسة بوغوصيان لوزارة التربية والتعليم وخضعت لنفس مناهج الوزارة باستثناء تدريس اللغة الأرمنية والتاريخ الأرمني والدين المسيحي .
كما اهتم أرمن الإسكندرية بإصدار الدوريات والصحف والجرائد والمجلات المتباينة باللغة الأرمنية بهدف الحفاظ علي هويتهم وتنمية عاداتهم الأرمنية والتواصل مع إرثهم الثقافي في خضم طوفاني حضاري مصري يعيشون في رحابه ، فقد أسس أرمن العروس "43" دورية بالثغر كلها باللغة الأرمنية ، ومتعددة التوجهات بين سياسية وأدبية وفكاهية ساخرة ودينية وأسرية وتربوية وعلمية ورياضية، وتنوعت إصداراتها بين يومية وأسبوعية ونصف شهرية ..إلخ .
تعد صحيفة "نيغوص" ( النيل ) الاسبوعية أقدم صحيفة أرمنية في الإسكندرية أسسها الاب غيفونت بابازيان في عام 1889 . كما أسس الأخوان ديكران وأرتين البيار صحيفة " باروس" ( المنارة) . ثم توالي إصدار الصحف الارمنية التي نمر علي أسمائها مرور الكرام : ليرابير( حامل الاخبار) ،أزاد بم ( المنبر الحر) ، أورينك ( القانون) ، جيراج ( النار) ، سفنكس، أزاد خوسك ( الكلمة الحرة).
ولكن جريدة "أريف" ( الشمس) تُعد أشهر جريدة أرمنية صدرت في الإسكندرية ، وهي من الجرائد الأرمنية المشهورة علي مستوي المهجر الأرمني كله ، صدر عددها الأول في 11 مايو 1915 ، وقد أصدرها واول من رأس تحريرها "فاهان تيكيان" ( 1878- 1945) الشهير بلقب " أمير الشعراء" في الأدب الارمني المهجري . ومنذ9 أغسطس 1924 انتقلت "أريف" إلي القاهرة ومازالت تصدر حتي وقتنا الحاضر.
كما التفت أرمن الإسكندرية إلي أهمية المنتديات الثقافية والاجتماعية والرياضية والخيرية والفنية . ففيها يجتمع الأرمن، بل كل أبناء بلدة يشكلون رابطة خاصة بهم ويتناولون أطراف الحديث بلغتهم عن كل شيء ، ويتعارفون ويتزاوجون..إلخ. وفي هذا الصدد قام نادي" اتحاد ديكران يرجات الثقافي"، الذي تاسس في أول مايو 1902 بدور ملموس في الحياة الثقافية الأرمنية السكندرية ، وسمي ديكران يرجات نسبة إلي أديب أرمني مشهور. وتمثلت أغراض تأسيس هذا الاتحاد في توطيد العلاقة بين المثقفين الأرمن علي المستويين العقلي والمعنوي وتقريب أرمن الثغر لما يحدث في أرمينية ، ومازال هذا النادي يؤدي دوره حتي الآن.
وبالإسكندرية أيضا جمعية " هراتشيماسير" ( محبو الفكر) ولها لجان فرعية مختصة بتنظيم المحاضرات والأمسيات الأدبية والموسيقية والعروض للشباب خصوصا، ونذكر أيضا أن الشباب الأرمني السكندري ذوي التوجه الشيوعي قد أسسوا جمعية "سيفان" الثقافية وقامت بنشاط ثقافي ملحوظ وسط الجالية السكندرية، لكن الحكومة المصرية آنذاك قد أغلقتها. وإلي جانب ذلك ، هناك جمعيات "زارتونج"( النهضة) المؤسسة منذ عام 1924 ، "هامازكايين" و " اتحاد جامك الرياضي "..إلخ .
وتجدر الإشارة إلي الدور الاجتماعي – الثقافي الذي قامت به المقاهي الأرمنية بالإسكندرية ، ففيها التقي الأرمن أبناء البلد الواحد وقصدها الأرمن الباحثون عن أشغال أو النازحون بلا مأوي ، وارتادها الأدباء والشعراء ومختلف الكتاب لتبادل أطراف الحديث حول قضايا الساعة الساخنة ، فمثلا ذكر الكاتب الأرمني يرفانت أوديان بأن مقهي " ساسون" بالإسكندرية كان غالبا يتحول إلي ناد أدبي.
هذا ، وقد التقت كل الجمعيات والاتحادات والأندية الأرمنية السكندرية عند نقطة واحدة ألا وهى : استدعاء أرمينية إلي مصر لتعيش في وجدانهم .
والحقيقة أن انتماء أرمن الإسكندرية - علي نحو ما هو بالفعل في جميع أرمن المهجر - يتسم بالازدواجية الإنسانية الثقافية . فقد انطبعت البصمة السكندرية علي البصمة الأرمنية فكونت خليطا متآلفاً بشكل هارمونى . فأرمينية هي الأم التي أنجبت دون أن تربي ومصر( الإسكندرية ) هي الأم التي ربت دون أن تنجب. وبالتالي سيطر علي الأرمن توليفية شعورية من هذا وذاك يصعب الفصل فيما بينهما.

الفنون
بالإضافة إلي ذلك، نشطت الحياة المسرحية بين أرمن الإسكندرية وقدموا عروضهم باللغة الأرمنية علي مسارح الهمبرا وزيزينيا والليسيه فرانسيه وبيلفيدير ويونيون أرتستك فرانسيز،عباس إلخ. ويلاحظ تفوق المسرحيات الكوميدية علي نظيرتها التراجيدية .
وفي مجال السينما ، جهز المصور الأرمني أوهان استديو " رامي" بالإسكندرية عام 1948 من آلات تصوير وعرض وتحميض وإضاءة وصوت. وقد أسس هذا الاستديو أبوتسولو كريازي ورمضان رامي. وبه بلاتوه واحد وخامات لبناءالديكورات وأعمال المونتاج والعرض، واقتصرت أعماله علي تقديم خدمات للأفلام التي تصور في الإسكندرية.
ونشطت الحياة الموسيقية والغنائية في الثغر، خاصة عروض أوبريت "لبليبيجى خور خور أغا"( بائع اللب )، وأوبرا "أنوش"( الحلوي) التي عُرضت علي اهم وأكبرمسارح الإسكندرية ، كما أثري الموسيقيون والمغنون الأرمن الحياة الموسيقية الغنائية بالإسكندرية . فعلي مسرح الهمبرا ، قدم كبار الفنانين الأرمن إبداعاتهم: جوميداس (1911)، شاهمراديان( 1912)، لوس سيفوميان(1923-1924)، أشود بادماكريان وزوجته روز،آرام خاتشادوريان ، وفرقة الغناء والرقص الأرمنية التي تعد الفرقة الوحيدة المحترفة في أرمينية لأداء الفلكلور ، وقد قدمت ست حفلات علي مسرح محمد علي.
ومن المحطات الشائقة التي يجب الوقوف عندها، محطة الخواجة سيتراك ميشان. ورغم أن ميشيان كان صاحب فابريقة إسطوانات بشارع عبد العزيز بالقاهرة ، إلا أنه قام بتسجيل طائفة كبيرة من إسطوانات فنان الشعب خالد الذكر ابن كوم الدكة سيد درويش( 1893-1923). ورغم وجود شركات إسطوانات كبيرة ومرموقة علي الساحة الفنية مثل أوديون وبيضافون وجرامفون ، إلا ان الشيخ آثر التعامل مع الخواجة الذي احتكر تقريبا تسجيل معظم إنتاج فنان الشعب، وبذلك أسهم في حفظ تراث شيخنا الفنان في الذاكرة الفنية المصرية.
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
شوف جدودك في قبورهم ليل نهار
من جحودك كل عظمة بتستجار...!!!
أما في مجال الفن التشكيلي ، فكانت الإسكندرية صاحبة فضل كبير علي الأرمن، إذ بدأ ميلاد الفنون الأرمنية المصرية الجميلة بنزوح المصور الشاب يرفانت دميرجيان ( 1870-1938) من الآستانة إلي الإسكندرية في سبتمبر 1896 ليصبح أول مصور أرمني في مصر الحديثة، كما أنه يعد حلقة مهمة في حركة الاستشراق الدولية وتاريخ الفنون الجميلة المصرية . ويعتبره البعض " رائد الواقعية المصرية ". ومن أجمل إبداعاته المحفوظة حاليا في متحف" مجوهرات أسرة محمد علي" بالإسكندرية الصورة التي رسمها للاميرة فاطمة الزهراء حفيدة إبراهيم باشا ابن محمد علي ، ويُطلق علي هذه الصورة " موناليزا رقم 2 " وقد أبدعها في عام 1926.
ومن الفنانين الأرمن المصورين الذين ارتبطوا بالعروس السكندرية: فاهان هوفيفيان الذي دارت معظم أعماله حول مناظر سكندرية مثل" العجمي" و"ماريوت" ، " ،بوزانت جوجامانيان(1909-1993) ، أشود زوريان( 1905-1970) الذي اشترت منه محافظة الإسكندرية لوحة منفذة علي القماش صارت من مقتنيات متحف الفنون الجميلة بالثغر، كريكور مجرديتشيان (1902-1948)، هامبارهامبارتسوميان (1908-1982) صاحب لوحة " حواري الإسكندرية" المحفوظة بمتحف الفنون الجميلة بالثغر السعيد ولوحتي " الربيع في كوم الدكة" و" حارة في كفر عشري"، وكذلك هاجوب هاجوبيان.
وهكذا يتضح مما سبق أن الإسكندرية فتحت ذراعيها لكل أرمني، بل لكل أجنبي، وعاش آمناً سالماً بها ، وفي شوارع الإسكندرية بعض الشوارع ذات الاسماء الأرمينية مثل شارع بوغوص ، نوبار، ديكران، ورغم أن حكومة الثورة ( يولية 1952 ) قد غيرت أسماء الشوارع الأجنبية بأخري وطنية إلا أنها تركت الأسماء الأرمنية ، مما يعني أنها لم تعتبر الأرمن من العناصر العميلة التي أفسدت الحياة قبل الثورة.
ورغم أن الحكومة قد نقلت تمثال نوبار باشا الشهير بالإسكندرية الموجود منذ 3 يونية 1904 بحديقة الشلالات عقب حادث المنشية (26 أكتوبر 1954 ) وضعته في أحد مخازن متحف الفنون الجميلة ، فإن محافظ الإسكندرية اللواء عبد السلام محجوب قرر نقل التمثال من المخازن ليوضع في ساحة مسرح سيد درويش.

جديد

تحميل الكتاب - تحميل الخرائط
أحدث المواضيع
بــيـــان عموم الأرمن في الذكرى المئوية للإبادة الجماعية الأرمنية
إصدارات - كتب

ذاكرة أرمنية – صور من مخيم لاجئي حلب 1922-1936


نحو قرار عادل ومنصف حول نزاع كاراباخ الجبلية

النشرة